: آخر تحديث

سوق التاريخ... مُنتعشة!

2
3
2

المفارقة أنّه من انبعاث سُبُل الاتصال بين الناس على الأرض، من شتّى الألوان والأعراق والأديان والثقافات، ما كان يُشعر بذوبان الفوارق وصناعة هُويّة إنسانية جامعة تلغي عناصر الافتراق أو تهمّشها، وتُعلي عناصر الاتفاق... المفارقة أن ذلك لم يحدث، بل حدث عكسه!

اليوم - أحصر حديثي بالعالم العربي - نجدُ طلباً عالياً على التاريخ وتقليب تربة الذات القديمة، واستصلاحها وبعثها، لدى الأجيال الجديدة، وعبر الوسائط الحديثة، وبالأساليب الديجيتال «الكول».

منصّات «بودكاست» كثيرة، من أقصى المغرب إلى أقصى المشرق العربي، ومن أقصى الشمال الشامي إلى أقصى الجنوب اليمني، تتحدث عن التاريخ وتسافر بين دروبه، وتحاول جلب ما تشتهيه من أغذية التاريخ وبهاراته، إلى طبق اليوم المُراد إعداده.

تجد على «يوتيوب» و«تيك توك» على سبيل المثال، محتويات من وجوه معروفة، أو جديدة، لا نعرف تاريخهم العلمي والصحافي، عن تاريخ نجد أو الحجاز أو الأحساء أو عسير، هذه الوجوه ليست بالضرورة سعودية، بل كثيراً ما تكون غير سعودية، ولا بأس في ذلك على فكرة! لأنك تجد سعودياً أو كويتياً يتحدّث عن دولة المرابطين أو الأدارسة أو الحفصيين في المغرب العربي... فالتاريخ مرتبط بعضه ببعض.

لكن هل هناك صورة واحدة للتاريخ؟ قراءة نهائية؟ نسخة ناسخة لما قبلها؟

في كتابٍ بعنوان «تكميم التاريخ: فلسفة مادية جديدة» للفيلسوف السلوفيني سلافوي جيجك كما عرّفت به الناقدة لطيفة الدليمي بهذه الجريدة، ينطلق جيجك في كتابه من تحدٍّ فكري أطلقه لينين حول أهمية (إعادة النظر جذرياً في المادية) على ضوء كلّ اكتشاف علمي كبير... ويستغلُّ جيجك هذا المفهوم ليجادل بأنّ التاريخ، في لحظاته الحرجة والسياسية، لا يسير في مسار حتمي واحد بل يبقى منفتحاً على مجموعة من الاحتمالات المتناقضة التي ستتحقّق واحدة منها فقط!

وهذا يقودنا للسؤال الأوليّ في فهم حركة التاريخ: هل التاريخ قطارٌ يسافر على مسارات حديدية لا يمكنه الخروج منها، مرسومة سلفاً؟!

أو هو مجموعة من الصُدف والحظوظ والتفاصيل الصغيرة التي تقوده إلى احتمالٍ من عشرات إن لمْ يكن مئات الاحتمالات؟!

أو هو خليطٌ من هذا وذاك؟!

يعني لو مات نابليون بونابرت في أثناء ولادته، أو وهو فتى صغير في جزيرة كورسيكا بسبب سقوطه من منحدرٍ صخري، هل سيتغير مصير أوروبا والعالم كله، بما فيه مصر؟!

أو أن نابليون «حتمية» تاريخية، لو لمْ يُولد لوُجد نظيره وقام بدوره نفسه، أو شيء كهذا؟!

ثمرة القول، أن الطلب الحالي المِلحاح على التاريخ، وإنعاش العناصر المحليّة القديمة للذات، يحتاج إلى مزيدٍ من التأمّل في أسبابه، بعصر الانفجار الاتصالاتي العالمي... كما يحتاج الأمر إلى الإشارة إلى أن أي سلعة يكثر الطلب عليها، تستدعي بالضرورة المُتطفّلين على السوق، كما نرى من «وفرة» المؤرخين الجدُد، بارك الله فيهم!


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد