: آخر تحديث

هل الإنترنت أضعف التفكير العقلاني في العالم؟

2
1
1

عبدالرحمن الحبيب

إذا كانت الأمية التقليدية انخفضت بنسبة كبيرة خلال الأربعة عقود الماضية وتزايد التحصيل العلمي حسب تقارير اليونسكو، لكن يبدو حسب دراسات وتقارير عديدة، أن ما صار يعرف بـ»الأمية المعرفية» آخذ في النمو، أي تراجع معدلات القراءة وضعف مستوى التحصيل العلمي مقابل كثافة استهلاك مواد الإنترنت ذات المقاطع السريعة القصيرة المثيرة على حساب التفاصيل المهمة والتدقيق في المصداقية، يصاحب ذلك قلَّة الانتباه وانخفاض التركيز مما ينتج عنه ضعف التفكير العميق (التحليلي والنقدي) وضعف التفكير المنظم، فيسهل وقوع الفرد في فخ المعلومات الزائفة والتأثر بالعواطف أكثر من الحجج المقنعة، والانسياق مع الأفكار الخيالية ونظريات المؤامرة التي تتوالد كل يوم في حاضنة وسائل التواصل الاجتماعي.

بينما يرى البعض أنه ليس بالضرورة أن تكون المعلومات مكتوبة أو نصية، إذ يمكن الحصول عليها بالوسائل البصرية المسموعة (الفيديوهات) بل إنها أسلوب أكثر طبيعية للبشر من الكلمة المكتوبة، وكل ما يفعله الإنترنت هو توظيفها في سياقها الطبيعي، مما يُسهل ترسخها واستيعابها شريطة ألا تكون سريعة متتالية، ويمكن استخدام الوسائل البصرية السمعية في المجال التربوي كما نلاحظ تزايدها في مناهج الدراسة باعتبارها أوضح وأسهل ومختصرة ومعبِّرة أكثر مقارنة بوسيلة الكتابة.

فماذا تقول الشواهد؟ تشير الدراسات إلى أن المؤشرات تميل إلى أن سرعة التحولات الرقمية تخلق الظروف للاستجابات السطحية وتُضعف التفكير العميق. على سبيل المثال، منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية أظهرت انخفاضاً في مهارات القراءة (الاستيعاب والفهم) لدى البالغين في 11 دولة من أصل 31 دولة خضعت للتقييم؛ كذلك انخفضت معدلات إنجاز الطلاب في القراءة في 20 دولة من أصل 31 دولة بين عامي 2016 و2021، حسبما أظهرت دراسة أجراها البنك الدولي عام 2023، مما يعكس تدهورًا عامًا في مهارات فهم القراءة المبكرة؛ يصاحب هذا التراجع انخفاض ملحوظ في القراءة للمتعة، لا سيما بين الشباب، حيث أشارت تقارير بريطانية حديثة إلى أن نسبة الأطفال الذين يستمتعون بالقراءة قد وصلت إلى أدنى مستوى لها منذ 20 عامًا (بي بي سي، جوي سليم).

هذا يرتبط بظهور مصطلح «ثقافة ما بعد القراءة والكتابة» حيث نستهلك معظم المعلومات من خلال الهواتف الذكية، متجنبين النصوص الكثيفة لصالح الصور ومقاطع الفيديو القصيرة (جون بيرن مردوك، فاينانشال تايمز)، كما ربطت أبحاثٌ أخرى استخدام الهواتف الذكية بأعراض اضطراب فرط الحركة ونقص الانتباه لدى المراهقين، ويشتبه ربع البالغين الأمريكيين الذين شملهم الاستطلاع في إصابتهم بهذه الحالة.

يُقصد بمصطلح «مجتمع ما بعد القراءة والكتابة» أو «ثقافة ما بعد القراءة» أو «ثقافة ما بعد النصوص»، تحول ثقافي لم تعد فيه قراءة النصوص هي الوسيلة الأساسية أو السائدة لاكتساب المعرفة والمعلومات، بل إلى أن تقنيات الوسائط المتعددة وغيرها من أشكال الإعلام تحل محل القراءة التقليدية بشكل متزايد كمصدر رئيس للمعلومات والفهم.

منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية أظهرت أن التراجع في مهارات القراءة لدى البالغين يتركز أكثر بين الفئات «الأدنى» اجتماعياً، بينما تحسنت بين الفئات الأعلى، مما ساهم في تعميق فجوة المعرفة وقد يشكل «طبقية معرفية». يطرح البعض بوادر طبقية معرفية، إذ إنه في أوساط الأثرياء يتم عمل تقييد أو تنظيم استخدام وسائط الاتصال الاجتماعي سواء في المدارس أو البيوت، بينما في الأوساط العامة ومع بلوغ الأجيال الجديدة سن الرشد مع هيمنة الهواتف الذكية، نتوقع ازديادًا في الطبقية المعرفية: فمن جهة، ستحتفظ فئة صغيرة نسبيًا من الناس بقدرتهم على التركيز والتفكير المطول، وستُطورها عمدًا، ومن جهة أخرى، سيُصبح عدد أكبر من عامة الناس ضمن ثقافة ما بعد القراءة والكتابة مع كل ما يترتب على ذلك من عواقب على الوضوح المعرفي.

وتتساءل ماري هارينغتون من نيويورك تايمز: ماذا سيحدث إذا تحقق هذا فعلاً؟ ثم تجيب: سيصبح الناخبون الذين فقدوا القدرة على التفكير المطول أكثر قَبَلية، وأقل عقلانية، وغير مهتمين بالحقائق أو حتى بالسجلات التاريخية، ويتأثرون بالعواطف أكثر من الحجج المقنعة، ومنفتحين على الأفكار الخيالية ونظريات المؤامرة الغريبة.

مقابل كل ذلك، يرى البعض أننا نشهد تحولاً سريعاً في وسائل التعبير والتواصل، تتراجع فيه الكلمة المكتوبة أمام الوسائل البصرية المسموعة، وسبق قبل عشر سنوات أن طرح عالم الأعصاب مارسيل جاست أن «اختراع ثقافتنا للكتابة والقراءة ما هو إلا حادث عابر. إنه عمل مصطنع ثقافياً طورناه، لكنه ليس ضمن طبيعة البشر. ولن نحتاج، بعد قرنين، لهذه الوسيلة لبث المعرفة»؛ وذكر جاست أن مخ الإنسان الأول مصقول بحس بصري دقيق وإمكانية المسح الواسع للمشهد ورؤية أقل حركة فيه: أسد في الظلال أم كرمة توت مخفية؟ أما القراءة فهي مهارة صعبة تقنياً تتطلب سنوات من التعليم، بينما دماغنا البصري يتعود دون أي جهد تقريباً على ألعاب الفيديو.

يبدو أن ما أطلق عليه «ثقافة ما بعد القراءة» تتشكل فعلاً في عالم اليوم، لكن هل يعني ذلك بالضرورة أضعاف للتفكير العقلاني طالما أنه يمكن الحصول على المعرفة بما تتضمنه من معلومات وأفكار من خلال الوسائط البصرية السمعية كوسيلة أساسية مع بقاء القراءة كإحدى الوسائل...؟


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد