: آخر تحديث

الفقر والخذلان وجه السوريين المشترك!

1
1
1

كم بتنا اليوم نشتاق إلى عشّ بيتنا القديم، إلى تلك الجدران المتشقّقة التي كانت تضيق بنا وتحتوينا في آن واحد، إلى أيام الطفولة والصبا، وأحلامنا الصغيرة التي كنا نرسمها على التراب، وإلى الحارة التي كانت بمثابة الكون كله بالنسبة إلينا، حيث الأبناء يتقاسمون رغيف الخبز والضحكة والركضة في أزقّتها الضيّقة، وحيث الأهل والأصدقاء والمعارف يختلطون ليشكلوا نسيجاً اجتماعياً واحداً، متماسكاً بالرغم من العوز والفاقة والفقر الذي كان يفتك بنا جميعاً. نعم، جميعنا كنا فقراء، لكننا لم نكن نشعر بالفقر كما نشعر به اليوم؛ كنا نعيش في بحبوحة روحية، في شعور جمعيّ بالرضا والامتلاء، نحن أبناء سورية.

أما اليوم، فإن معظم أهلنا هناك يعيشون الفاقة بكل مقرفاتها وتفاصيلها المهينة، يعيشونها كما لو أنها قدر مكتوب لا فكاك منه. وفي أماكن اللجوء، حيث توزّع أبناء سورية على وجه الأرض كحبّات قمح تناثرت في ريح عاتية، تغيّر الحال كثيراً. فمن لجأ إلى أوروبا، "بلاد النعيم" كما يصفها بعضهم، اكتشف نعيمها ونارها معاً، ومن هاجر إلى أميركا أو كندا أو أستراليا أو البرازيل، وجد نفسه في عوالم جديدة تثير الدهشة بقدر ما تبعث على الغربة. أما العالم العربي، فقد استقطب أعداداً كبيرة أيضاً، لكنه لم يكن ملاذاً دائماً، بل محطّة بين وطن يُقتلع من تحت الأقدام وحلم لم يكتمل.

لكن السؤال المرير الذي يظل يطاردنا: بعد كل ما جرى ويجري على الأرض السورية، ماذا يمكن أن نقول عن مصير مئات الآلاف، بل الملايين الذين هُجّروا عنوة؟ عن أولئك الذين تمكنوا من الفرار من بين أنياب الجلادين، أو الذين نجا بعضهم بأعجوبة من المجازر، أو الذين جرّبوا الفقر المدقع بأيديهم لا كفكرة بل كواقع يسلبهم الكرامة والخبز معاً؟ بل ماذا عن القلّة النادرة الذين فضّلوا البقاء في الوطن، ليس حباً فيه كما قد يُظن، وإنما خوفاً من المجهول، من الغربة التي لا تحتمل، ومن الفقدان الذي لا يُطاق؟

إن السيولة المادية، أو قل غيابها، كانت ولا تزال الحجر الأكبر الذي يسدّ طرق الهروب. فالمغادرة تحتاج إلى المال، والمال نادر، بل معدوم بين أيدي غالبية السوريين. فكيف يفرّ المرء من جلاد يجثم على صدره إن لم يكن قادراً على دفع ثمن الفرار؟ لقد كان النظام الطاغية وزبانيته يجاهرون بنهب جيوب المواطن "المعتّر"، ويعبثون بخيرات البلاد التي اغتنموها عنوة، ويحوّلونها إلى ملكية شخصية، فيما يتركون الشعب في فاقة مخزية. وهكذا جاءت النتيجة: غلاء معيشة غير مسبوق، سعر الدولار الذي كان يوماً لا يتجاوز خمسين ليرة سورية، وصل إلى سقف الخمسة عشر ألف ليرة، ثم واصل صعوده بلا رحمة، فيما كان المواطن ينهار مع كل ارتفاع، ويخسر لقمة يومه وكرامة وجوده. انهيار اقتصادي شامل، عسف بحقوق الناس، إذلال متواصل، وكأن البلاد تحوّلت إلى مسرح عبثي لا نهاية له.

الصورة التي ينقلها لنا أهلنا وإخوتنا في الداخل محزنة إلى درجة موجعة. فيها من المعاناة ما يفوق الوصف، لكنها صارت جزءاً من معيشتهم، بل حتى من أحلامهم! صار الحلم نفسه محكوماً بالمعاناة، مطعّماً بملحها المر، وكأن الذاكرة الجماعية لم تعد تعرف طعماً آخر.

لم يكن المواطن السوري ليتخيّل، حتى في أسوأ كوابيسه، أن يصل به الحال إلى هذا القاع، أن يرى نفسه محاصراً بين الموت جوعاً والموت قهراً، أن يتحوّل وجوده اليومي إلى محاولة يائسة للنجاة. ومع ذلك، ها هو اليوم يتعايش، بالرغم من أنفه، مع هذا الواقع الأليم الهش، وها هو يبتكر ألف حيلة ليبقى على قيد الحياة.

لكن، هل كان حقاً يفضّل البقاء؟ أم أن الحواجز التي تعترض طريقه أكبر من إرادته؟ الحقيقة أن كثيراً من هؤلاء، وبالأخص المتزوجين وأصحاب الأسر، لم يملكوا رفاهية القرار. كيف يمكن لرجل يعيل أسرة أن يترك زوجته وأطفاله ليلتحق بركب المهاجرين؟ إلى من يسلّمهم؟ ومن يعتني بهم؟ ومن يلبّي طلباتهم الصغيرة التي لا تنتهي؟ أي أب يستطيع أن يغادر فيما عيون أبنائه تستجديه البقاء؟

لهذا فضّل كثيرون الموت البطيء على حياة التيه. فضّلوا أن يبقوا إلى جانب أسرهم، أن يعملوا في أي عمل مهما كان دنيئاً، وبأجر ضئيل لا يكفي ثمن الخبز، لكنهم ظلوا مع أبنائهم، حاضرون عند مرضهم، عند حاجتهم، عند خوفهم. إنه خيار أشدّ قسوة من المنفى، لكنه يظل بالنسبة إلى كثيرين أهون الشرّين.

هذه الأسئلة المرعبة ـ من يعيل الأسرة؟ كيف ينجو الأطفال؟ ماذا عن الزوجات والأمهات؟ ـ لم تجد جواباً، بل ظلّت تؤرق كل مواطن سوري. وبسببها، كثيرون آثروا البقاء والقبول بالخذلان، ودفن أحلامهم في تراب الوطن.

هكذا أُجبر ربّ الأسرة الفقيرة على التشبّث ببلاده، حتى ولو في خذلان، أن يرضى بالواقع مهما كان قاسياً، وأن يقبل بأي عمل شاق، لأن عيون أطفاله أثمن من أي حلم آخر. وهكذا باتت سورية التي نعرفها تتلاشى أمام أعيننا: سورية الحضارة والكرامة والعنفوان، تحوّلت إلى أرض جرداء تفتك بأبنائها، تبتلع أحلامهم، وتجرّهم إلى عيش ذليل لا يليق بتاريخها ولا بذاكرتها.

ومع كل هذا، ظل المواطن السوري متشبثاً بأرضه. ليس حباً ولا طوعاً، بل كرهاً وإذعاناً ورضاً بالمقسوم. كأنه يقول: "لن أغادر حتى لو أُهنت، فإلى أين أذهب؟". إنه تشبّث يشبه جذور الشجر في صخر قاس؛ تبقى بالرغم من القحط، بالرغم من العطش، بالرغم من انكسار الفروع.

كل هذا الكلام أنقله من رحم المعاناة التي يعيشها ابن سورية منذ عقود، في ظل حكومة لا تعرف الرحمة، حكومة لم يكن همّها يوماً إلا إذلال المواطن، قهره، عزله، وتركه على الرف كسلعة منسية. لقد تدرّب هذا المواطن على تحمّل الذل، على مضض، على مدار سنوات طويلة، حتى صار الذل جزءاً من نسيجه النفسي.

هذه هي لبّ المأساة: معاناة تزداد يوماً بعد يوم، خاصة في الداخل السوري، معاناة بلا أفق، بلا حل. والسؤال الذي يبقى معلقاً في فضاء الوجع: إلى متى؟

حين نستعيد صور البيوت القديمة، لا نستحضر فقط حجارة متآكلة أو جدراناً مشققة، بل نستحضر معها الذاكرة الجمعية التي تسكنها. البيت السوري القديم لم يكن مجرد مأوى، بل كان فضاءً للعائلة الممتدة، للمحبة، للمناسبات، وللألفة التي تذوب فيها الحدود بين الجيران. كان الفناء الداخلي بمثابة القلب الذي يخفق بالحياة، حيث تنبعث رائحة الياسمين وتُسمع ضحكات الأطفال.

اليوم، كثير من هذه البيوت صارت أطلالاً أو ركاماً، بعد رحيل الطاغية وخلاص سورية من أنفاسهم القاتلة، لم يُدمَّر الحجر فقط، بل دُمّرت معه الروح. كل حجر مهدوم هو ذاكرة مسروقة، وكل شارع فارغ هو صدى لضحكات غابت.

لم يكن الفقر وحده هو القاسم المشترك. بل كانت هناك شبكة أمان اجتماعية غير مكتوبة: الجار الذي يمدّ يده، الأم التي تطبخ للآخرين، الصديق الذي يشاركك نصف كسرة خبز. هذه الشبكة تمزّقت مع الحرب، مع النزوح، مع الشتات. لم يعد السوري يعرف جاره الجديد في بلاد الغربة، ولم يعد أحد يطرق بابه ليطمئن عليه. الوحدة صارت مصيراً ثقيلاً.

المعاناة لم تكن مادية فقط. إنها نزيف نفسي عميق. الخوف من الغد صار هاجساً يومياً. الأطفال كبروا قبل أوانهم، نسوا معنى اللعب، وصاروا يحفظون أسماء القذائف وأنواع البنادق. النساء حملن أعباء مضاعفة، بين فقدان الأزواج والأبناء، وبين تحمّل مسؤوليات بيتية لا تُطاق.

سورية، التي كانت مهد الحضارات، أرض الأبجدية الأولى، صارت مثالاً حيّاً على السقوط المدوي. هذا التناقض بين ماضٍ مجيد وحاضر مذلّ يزيد من الألم. فالمواطن السوري يحمل إرثاً تاريخياً يذكّره دوماً بما كان، فيزداد شعوره بالخسارة.

وجه المعاناة ليس وجهاً واحداً، بل وجوه متعددة: وجه الجوع، وجه الغربة، وجه الخوف، وجه الذل. وكلها وجوه محفورة في ملامح السوريين، في صمتهم الموجوع، في صبرهم الذي يكاد ينفجر.

ومع ذلك، ثمّة خيط رفيع من الأمل. الأمل الذي يتشبث به السوري بالرغم من كل شيء، الأمل الذي يظهر في عيون طفل يبتسم بالرغم من الجوع، أو في امرأة تُصرّ على تعليم أولادها، أو في شاب يرفض الاستسلام.

لكن السؤال الذي يظل معلقاً، كندبة لا تشفى: إلى متى؟


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.