ولد في العام المتمم لنصف القرن الماضي، واليوم بعد هرولة ربع القرن الجديد أصبح يحمل على كاهله المرهق ثلاثة أرباع قرن. رأى ما لم تره عين وما لم يخطر على قلب بشر وما لم تسمع به أذن؛ رأى هزائم ورأى انتصارات، ودخل آتون حربين ونجا بمعجزة... رأى الأتراح ورأى الأفراح. رأى قاع الحزن ورأى قمة البهجة. رأى الحب البهي النقي الأبيض البريء ورأى الشهوة المسمومة وعواقبها المجللة بالسواد. عاش رغد العيش والرفاه وعاشر الفاقة وذل الاحتياج. رأى الجمال في أبهى صورة أبدعها الخالق، ورأى الدمامة المنفرة المقيتة. رأى الإخلاص والشهامة ورأى الخيانة والخذلان. فعل الخير وحصد المكافأة وارتكب الشر ونال العقاب.
باختصار، خمسة وسبعون عامًا من السعي اللاهث المضني نحو أهداف كان يظن أن كل هدف منها هو منتهى المبتغى، لكن الحقيقة أنه كان مجرد درجة في سلم الطموح اللانهائي، ودائمًا عند بلوغ درجة منه ــ من سلم الطموح اللانهائي ــ كان هناك ما يليها. حتى النقلات الكبرى، المفترض أنها لحظات سعادة فارقة في الحياة، عبرت بسرعة كقطار سريع بدا أنه لا يكترث بالمحطات الصغيرة.
وبدون مقدمات هجم الشيب على المفرق وخفت بريق العيون، وتكاسلت الكلى والأكباد وترهلت جلود الرقاب والتَهبت المفاصل، وانتفخت الجفون وحتى الشغفات الحياتية الصغيرة بدت وكأنها تضمر وتتآكل. ذكريات الحب الأول أصبح استدعاؤها بشق الأنفس، فالملامح والأحداث أصبحت متداخلة، والشريط الذي كان دائمًا ما يعرض الحكايا السعيدة عرضًا مبهرًا ثلاثي الأبعاد، أصبح عصيًا يمر متثاقلًا مشوشًا، ودائمًا ما يعرض رواية دامعة حزينة، ويعرض معها الاكتشافات المتأخرة ويعرض معها أصفار المحصلة الكثيرة الكبيرة، ويعرض النتيجة النهائية: لم ينجح أحد.
ثم الإنذار الأخير بالانسحاب والاستسلام، لكن كان هناك دائمًا جيب مقاومة مختفٍ خلف ساتر مموه ينتفض غاضبًا متحديًا كلما حانت لحظة رفع الرايات البيضاء. ينتفض ويشهر أسلحته في وجه الزمن متحديًا يحدوه أمل في الفوز بمهلة ولو بعقد جديد، لعله يعيد صياغة وتنقيح وتحليل هذه الرحلة الطويلة من المنجزات والموبقات والخطايا والأخطاء. لعله يفوز بمهلة يوقظ فيها الإنسان الخير الذي في داخله من سباته العميق ويكبح جماح نفسه الأمّارة دائمًا بالسوء، لعله يستطيع الاعتذار لكل من طاله أذاه، أو يرد جميلًا نسيه أو بالأحرى تناساه، لعله يستطيع بنظرة إلى الوراء أن يرى الحقائق عارية، يرى صورته كما يراها الناس، يرى من أحبه ومن أذاه، ومن في محنته واساه، ومن أضحكه ومن أبكاه، من احتفظ بمودته على البعد كل هذه السنين، ومن كان مجرد مرحلة في الحياة ومرت كسحابة صيف.
ترى هل تمنحه السماء مهلة جديدة لعله يكتفي ويزهد ويكفّر عن ذنوبه وخطاياه ويكتشف الحقيقة الكبرى: لا فائدة من استمرارها… الحياة.