في كل مجتمع، وفي كل زاوية من زوايا الحياة، يبرز التناقض كقانون بشري دائم. فلا صفاء مطلق، ولا كمال دائم. يتعايش في الإنسان الخير والشر، كما تتجاور في المجتمعات الفوضى والنظام، والنهضة والعجز. وحتى في أرقى الدول، لا تغيب الجرائم ولا تخلو الشوارع من فوضى أو إخفاقات. الكمال ببساطة، وهم.
في العراق، يبدو هذا التناقض أكثر حدة، حيث لا يقتصر على الأداء الحكومي بل يمتد إلى المزاج الشعبي نفسه. فغالباً ما يُقابل كل إنجاز بنظرة ريبة، وكل محاولة إصلاح تُستقبل بتشكيك وسخرية، وسط خطاب إعلامي مشوش، يضخم الإخفاقات ويتجاهل الإيجابيات.
في بلد عانى من الحروب والفساد والانقسامات، صار جلد الذات سلوكاً مألوفاً. فالشارع العراقي كثيراً ما يميل إلى التشكيك، حتى في النجاحات الصغيرة، ويرى في أي إشادة تملقاً، وليس احتفاءً بما يخدم الوطن. والنتيجة: فقدان القدرة على التمييز بين النقد البنّاء والهدم السلبي.
وبينما تحتدم معارك الفشل وتمحى الإنجازات بسرعة من الذاكرة السياسية، يأتي حدث بسيط لكنه رمزي: عودة قريبة للحياة إلى شارع الرشيد. هذا الشارع، الذي ظل رمزاً لبغداد الكلاسيكية، للفن والثقافة والمواكب والحكايات، يعاد إليه الاعتبار بهدوء وجمال. وكما نهض شارع المتنبي، ها هو "الرشيد" يستعيد بعضاً من بريقه وتاريخه، ليقول لنا: هناك من يعمل، وهناك من يؤمن، وهناك من لا يزال يرى في العراق وطناً لا مشروعاً للندب فقط.
لكن عودة شارع الرشيد ليست مجرد مشروع بلدي؛ بل هي فعل مقاومة ضد السلبية. هي دعوة لإعادة تشكيل علاقتنا بالوطن، من علاقة شكوى دائمة إلى علاقة بناء وتقدير. فالوطن ليس مسؤولاً فقط عن خيباتنا، بل هو أيضاً مساحة أمل. وإن كانت الحكومات قد أخفقت في مواضع، فإن الشعوب أيضاً تخذل أوطانها حين تستسلم للجلد المفرط والتشاؤم العقيم.
النقد ضروري، لكنه ليس هدفاً بحد ذاته. النقد الذي لا يُثمر إصلاحاً، أو لا يُميز بين الخطأ والصواب، يصبح أداة هدم. وكما نرفع صوتنا ضد الفساد والتقصير، ينبغي أن لا نخجل من رفع الصوت لصالح كل من ينجز، بصرف النظر عن موقعه. لأن الوطن هو المستفيد الحقيقي من كل خطوة إصلاح، وليس المسؤول أو الحزب أو التيار.
شارع الرشيد هو اليوم أكثر من رصيف مبلط وبناية مرممة؛ إنه شاهد على إمكانية النهوض حين تتوافر الإرادة. عودته هي عودة جزئية لذاكرة المدينة، وكرامتها. وهي فرصة لنكف عن تحقير كل ما ينجز، ولنراجع طريقة رؤيتنا لوطننا.
نعم، نعرف جيداً أن ما هدم في هذا الوطن أكثر مما بني، وأن أيادي السياسيين العابثة سرقت منا ما يكفي لبناء دول كاملة في الأمن والكرامة والرفاه. وندرك أن الكرامة قد مرّغت في وحل الفساد، وأن وجوه الناس قد أثقلها القهر واليأس. لكن، وبالرغم من كل شيء، يبقى الوطن فينا شعلة لا تنطفئ.
ليس الوطن مجرد خرائط وشعارات، بل هو الإحساس الذي يرفض أن يموت فينا. هو الإصرار على الحلم، في وجه من أرادوا لنا أن ننسى، أن ننهار، أن نرحل. قد يسرقون خبزنا، أحلامنا، حتى قبورنا… لكن لا يمكن لأحد أن يسرق الوطن من أرواح عششت فيه، وآمنت بأنه يستحق الحياة.
الوطن، حتى حين ينهكه الفساد، يبقى طاقة كامنة في قلوب الصادقين. لا نمدحه نفاقاً، ولا نصمت عن ظلمه خوفاً، لكننا نتمسك به كما يتمسك الغريق بخشبة النجاة. لأنه إن سقط من قلوبنا، فلا قيام لنا بعده.
نكتب حتى لا يختزل العراق في وجوه السياسيين، ولا في كوارث الحكومات، ولا في قبح الإدارات. لأن هذا البلد أوسع من الفاسدين، وأقدم من مؤسساتهم، وأطهر من تاريخهم الملوث. العراق هو الناس الذين يحلمون بالرغم من الألم، والذين يزرعون الزهور في حديقة متصدعة الجدران، ويكملون الحياة كأنهم يصنعون معجزة صغيرة كل يوم.
الوطن ليس مرآة نكسرها كلما رأينا فيها وجعنا، بل هو الحلم الذي نلملم فيه شتاتنا كلما بعثرنا اليأس. لا تروى الأوطان بدموع جلد الذات، بل بنبض الإيمان بها… حتى حين تخذلنا. فجلد الذات لا يبني أوطاناً، إنما تبنيها النفوس التي ترى في رماد الخيبة شرارة أمل. الوطن لا يهزم إلا إذا تخلينا عنه.