: آخر تحديث

‏شطاف السياسة الدولية... أي غسيل هذا؟

2
2
2

‏أذكر أنني حين كنتُ قنصلاً عامًا للمملكة في هيوستن – تكساس، ركّبت في منزلي هناك عدداً من الشطّافات التي جلبتها من السعودية. يومها، لم يكن الـ"Bidet Sprayer" معروفًا في أغلب البيوت الأميركية. استغرب السباك من طلبي، وسألني: ما هذا الجهاز؟ فأجبته مبتسمًا: "Ass Washer". الكلمة بالإنجليزية بدت عادية، لكنها لو تُرجمت حرفيًا للعربية لأثارت حساسيةً شديدة!

‏هذه القصة القديمة عادت إلى ذهني مؤخرًا، بعد أن شاهدت كاريكاتيرًا لاذعاً لرسّامنا المبدع كمال شرف، تناول فيه بعينٍ ساخرة الموقف الإسرائيلي بعد الضربة الجوية الأخيرة على الدوحة، عبر فيه عن واقعنا أكثر من آلاف البيانات الدبلوماسية.

‏ففي 9 أيلول (سبتمبر) 2025، شنّت إسرائيل غارة جوية على العاصمة القطرية، استهدفت اجتماعًا لقيادات من "حماس"، وأوقعت قتلى بينهم مسؤول أمني قطري. الضربة وُصفت من مجلس الأمن والأمم المتحدة بأنها انتهاكٌ صارخ لسيادة دولة عضو ولقواعد القانون الدولي. لكنّ الرد الإسرائيلي جاء متعجرفًا لم يكتفِ برفضٌ القرار، واتهام الجمعية العامة بأنها "سيرك سياسي"، بل أمعن في التحدي والصفاقة، وهددت إسرائيل بأن "لا حصانة لأحد، لا في غزة، ولا في لبنان، ولا في قطر" ("الجزيرة"، 11 أيلول - سبتمبر 2025)، وبأنَّ إسرائيل "لن نتراجع، وسنستمر في العمل بحزم ضد قادة الإرهاب أينما كانوا يختبئون"! وكأن العالم بأسره حديقتهم الخلفية.

‏أما "الشطاف" الأميركي، فجاء عمله هذه المرة ضعيفاً وخجولاً. فبدلاً من غسل هذا العدوان، جاءت غسالة السياسة الأميركية بمنطق عاجز، فالرئيس الأميركي دونالد ترامب، بدلاً أن يقف عند الحقيقة، اكتفى بتصريح باهت قال فيه: "أنا غير سعيد بالغارة". غير سعيد؟!... وبأن الضربة "لم تحقق أهدافها"، مضيفًا أن الجيش الأميركي كان على علم مسبق بالغارة، لكن "الوقت كان متأخرًا جدًا لوقفها". ثم حاول التخفيف من وقعها بالتأكيد على "أهمية قطر كحليف قوي وصديق" ("رويترز"، 9 أيلول - سبتمبر 2025).

‏هكذا ببساطة: حياة الشعوب تُختزل في تأخر ساعة أو قرار! ومع ذلك، يستمر الخطاب الأمريكي في التغني بـ"أهمية قطر كحليف"، وكأن التحالف يُقاس بعدد القواعد العسكرية لا بعدد الانتهاكات التي تُغضّ واشنطن الطرف عنها.

‏لكن ماذا بعد؟

‏هل تقبل قطر أن تبقى رهينة لهذه المعادلة؟ هل يسكت الخليج كله أمام رسالة إسرائيلية واضحة: أن أي عاصمة عربية ليست بمنأى عن الصواريخ؟

‏الحقيقة أن هذه الحادثة أثارت أسئلة كبيرة:

‏كيف يمكن لواشنطن أن توازن بين تحالفها الاستراتيجي مع دول الخليج، وبين صمتها أو تبريرها لضربات إسرائيلية بهذا الحجم؟

‏وإلى أي مدى ستظل قطر – التي تحتضن أكبر قاعدة عسكرية أميركية في المنطقة (قاعدة العديد) – تقبل بهذا التناقض الصارخ؟

‏ثم ماذا لو لجأت الدوحة إلى تعزيز شراكات دفاعية بديلة، مع دول كبرى مثل الصين عبر بوابة باكستان، التي زار رئيس وزرائها قطر بعد الضربة مباشرة؟

‏لن أُطيل... لكن هذه كلها تساؤلات مفتوحة، وما رأيناه يكشف عجز "البيانات الدولية" عن تنظيف الجريمة، تمامًا كما لا يستطيع الماء وحده تنظيف الجرح النازف.



‏إنَّ الضربة الإسرائيلية على الدوحة لم تستهدف قطر وحدها، بل استهدفت كل دول الخليج، وكل من يظن أن في تحالفه مع "Washington Washer" حصانة من العدوان. وهو ما يقودني مرّة أخرى إلى "شطّاف هيوستن". فالموقف الإسرائيلي، والتأييد الأميركي، كما صوّره الفنان كمال شرف (الصورة أعلاه)، ملوّثٌ إلى درجة أنَّ ملايين الشطّافات لن تكفي لتنظيف وغسل عار من يأتي بوجهين: وجه صديق في الظاهر، وآخر غادر في الحقيقة.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.