: آخر تحديث

أسطورة التفوق الصهيوني وتسويق الوهم كسلاح

3
3
3

منذ عقود طويلة والكيان يعمل على بناء سردية تقوم على التفوق المطلق، ليس فقط عسكرياً أو أمنياً، بل حتى على مستوى الوعي الجمعي لخصومه.

في كل مرة تحدث واقعة كبيرة، تتحرك آلة الرواية لتقول إن ما جرى ليس مجرد عملية، بل إثبات جديد على أن اليد الإسرائيلية تطال كل شيء: السماء والأرض والبحر وما تحت الأرض، غير أن التدقيق في هذه الوقائع يكشف أن ما يُسوَّق بوصفه تفوقاً استثنائياً ليس سوى صناعة منظمة للوهم، يُقدَّم بمهارة على أنه حقيقة مطلقة.

حادثة سقوط طائرة الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي قدمت نموذجاً صارخاً لهذا الأسلوب. الحدث في ذاته تحوّل إلى مادة غنية لتغذية الأسطورة، قيل إنه حادث عرضي، وقيل إنه نتيجة خطأ تقني، وقيل أيضاً إن فيه يداً خفية أسقطت الطائرة…! لكن المهم لم يكن التفسير، بل ما تم بناؤه من معانٍ. إذ جرى تسويق الحادثة على أنها إعلان صريح أن حتى رأس الدولة ليس محصناً، وأن السماء ذاتها لم تعد آمنة. وهنا يبرز ما يمكن تسميته بالانتصار الرمزي: تحويل لحظة ارتباك داخلية إلى دليل على أن العدو حاضر في كل تفصيل. لكن القراءة النقدية تكشف أن الحادثة قد تكون في حقيقتها خللاً بنيوياً في منظومة الطيران أو ضعفاً في الاحتياطات، لا إنجازاً معجزياً لقوة خارقة. ومع ذلك، فإن التوظيف الإعلامي كان كفيلاً بتكريس الفكرة التي يريدها الكيان: أن لا ملجأ لأحد.

بعد أسابيع قليلة، جاء اغتيال إسماعيل هنية داخل مبنى رسمي في قلب طهران ليضيف فصلاً جديداً في كتاب الرواية. مرة أخرى، تُطرح الأسئلة: كيف أمكن اختراق أهم المواقع الأمنية؟ كيف جرى استهداف شخصية بهذا الحجم في عاصمة مكتظة؟ لكن بعيداً عن التفاصيل، فإن الرسالة التي جرى تسويقها هي أن اليد الإسرائيلية قادرة على الوصول إلى أعمق نقطة في قلب النظام. مع أن التحليل الواقعي يفتح أبواباً كثيرة لاحتمالات التواطؤ، الفشل الأمني الداخلي، أو حتى سيناريوهات معقدة من الصراعات البينية، إلا أن النتيجة التي استقرت في الأذهان كانت وفق المخطط: الكيان لا يُقهر، والخصوم عراة مهما ارتدوا من طبقات التحصين.

لكن ذروة هذه السردية تجلت في تفجير آلاف أجهزة البيجر دفعة واحدة. العملية وُصفت بأنها ضربة نوعية، واستخدمت لإظهار قدرة خارقة على اختراق البنية التحتية للاتصال والسيطرة. لم يكن الأمر مجرد تفجير تقني، بل صُمم ليصبح مشهداً أسطورياً: آلاف من الأشخاص يحملون أجهزة تتحول في لحظة إلى عبوات ناسفة صغيرة. الرسالة النفسية كانت أقوى من الفعل نفسه، إذ أوحت بأن كل وسيلة حماية قد تتحول إلى سلاح ضد حاملها، وأن كل شيء مكشوف ومخترق حتى أدق التفاصيل. لكن التحليل البارد يمكن أن يقترح سيناريوهات أخرى: من الإمداد المنهجي بوسائل ملوثة منذ البداية، إلى استغلال شبكات فساد داخلية، أو حتى تضخيم واقعة جزئية لتتحول إلى قصة كاملة. ومع ذلك، فإن ما جرى تسويقه لم يكن مجرد عملية تقنية، بل برهان إضافي على (القدرة الخارقة) للكيان.

ومن أبرز حلقات هذه السردية ما جرى مع استهداف حسن نصر الله في ملجأ عميق أحد عشر طابقاً تحت الأرض. لقد جرى تقديم العملية بوصفها إنجازاً خارقاً، يثبت أن لا حصن يقي ولا جدار يحمي. غير أن القراءة النقدية تكشف أن ما رُوّج لم يكن سوى امتداد لأسطورة التفوق التي يسعى الكيان إلى ترسيخها في الوعي الجمعي. فالمهم ليس تفاصيل العملية بقدر ما هو توظيفها لإقناع الخصوم بأن حتى الملاجئ تتحول إلى أوهام. وهنا يظهر الوهم كأداة مركزية: تضخيم مقصود يجعل الأسطورة تبدو أقوى من الحقيقة ذاتها.

وجاءت ضربة الدوحة لتكمل المشهد. مقر ضيافة سياسي يتعرض لهجوم، والرواية الرسمية تتحدث عن صواريخ بالستية انطلقت من البحر الأحمر، قطعت مسافة هائلة، لتسقط بدقة في قلب العاصمة. الصورة التي رُسمت في الأذهان هي أن الكيان قادر على الضرب من الفضاء نفسه، وأن لا مكان خارج مرماه. لكن عند تحليل المعطيات العسكرية، يتضح أن سيناريوهات كهذه محفوفة بالتعقيد: مسار الصواريخ، إمكانيات الاعتراض، التحديات التقنية، كلها تجعل من تلك الرواية أقرب إلى الرسالة النفسية منها إلى العملية الواقعية. لماذا لم تُستخدم هذه القدرة المزعومة في مسارح أخرى أكثر تهديداً مثل العمق الإيراني أو أهداف الحوثيين البعيدة؟ ولماذا تلجأ إسرائيل في عملياتها المعقدة ضد منشآت نووية إلى وسائل تقليدية نسبياً كالطائرات وصواريخ كروز؟ الإجابة تكمن في أن المهم ليس الفعل ذاته، بل الأثر الذي يتركه في وعي الخصم.

هكذا تُبنى الأسطورة. ليس المطلوب أن تكون كل عملية خارقة في ذاتها، بل أن تُقدَّم على هذا النحو. الإعلام، التسريبات، التصريحات غير الرسمية، كلها تتضافر لصناعة صورة ثابتة: الكيان حاضر في كل زاوية، متفوق في كل مجال، وقادر على أن يحول الواقع إلى أداة رعب مستمر. هذه الصورة تترسخ مع كل حدث، حتى لو كان في جوهره نتيجة خلل داخلي أو خطأ تقني أو فشل بنيوي عند الخصم. ومن هنا فإن الوهم يتحول إلى سلاح لا يقل خطورة عن الصواريخ، بل قد يتفوق عليها لأنه يزرع الشك في كل ما هو ثابت.

القراءة النقدية لهذه السرديات تكشف أن ما يُسوَّق على أنه (تفوق استثنائي) لا يعدو كونه مزيجاً من استغلال الأخطاء، توظيف الإعلام، وتضخيم الوقائع. نعم، هناك قدرات تقنية متقدمة، ولا يمكن إنكار وجود اختراقات أمنية واستخباراتية، لكن تحويل هذه الأحداث إلى أسطورة شاملة عن التفوق المطلق هو عملية متعمدة ومدروسة. إنها محاولة لإقناع الخصوم بأنهم مهزومون قبل أن تبدأ المعركة، وأن الحصون مجرد أوهام، وأن كل جهاز أو ملجأ أو حتى طائرة رئاسية قد يتحول إلى نقطة ضعف.

بهذا المعنى يصبح الصراع اليوم مع الكيان صراعاً على الرواية قبل أن يكون صراعاً على الأرض. من يملك القدرة على صياغة الحدث وتفسيره هو من يتحكم في مسار الحرب. وحين تُترك هذه المهمة لآلة إعلامية تملك مهارة في التلاعب بالصور والوقائع، تصبح الهزيمة النفسية أسرع من الهزيمة العسكرية. هنا يمكن استدعاء نظرية (الحرب الهجينة)، التي ترى أن القوة لم تعد محصورة في السلاح وحده، بل موزعة بين الإعلام، الاقتصاد، السيبرانية، والرمزية. الكيان يستخدم هذه الأدوات كلها ليقدم نفسه كقوة لا تُهزم، فيما الحقيقة أكثر تعقيداً وأبعد عن الصورة التي يتم تسويقها.

إن نقد هذه الأساطير لا يعني التقليل من خطورة الكيان، بل كشف طبيعة المعركة. فالخطر الأكبر لا يكمن فقط في الصواريخ أو الاغتيالات أو التفجيرات، بل في نجاحه في جعل خصومه أسرى لسرديته. وحين يصدقون أن كل ما يجري دليل على تفوق مطلق، يكونون قد خسروا المعركة قبل أن تبدأ. وهنا تكمن المفارقة: الوهم يصبح أقوى من السلاح، والأسطورة تتحول إلى أداة أشد فتكاً من الرصاصة.

الكيان إذن لا يكتفي بالعمليات الميدانية، بل يبيع الوهم بوصفه حقيقة، ويستثمر في الأسطورة بوصفها استراتيجية. ومن لا يفكك هذه الأسطورة ولا يفضح آلياتها، سيبقى محكوماً بها، يعيش في ظلها، ويعيد إنتاجها من حيث لا يدري. لقد آن الأوان لقراءة هذه الأحداث بعيون ناقدة، لا بعيون مبهورة. فالتاريخ يعلمنا أن القوى التي بنت وجودها على الأساطير سرعان ما تتكشف حقيقتها حين يتجاوزها الواقع، وأن الرواية مهما بدت متماسكة يمكن أن تنهار بمجرد أن يُسحب منها خيط الوهم الذي يربطها.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.