من الأحداث المصرية التي لا تُنسى أن محكمة النقض المصرية أصدرت في حزيران (يونيو) 2016 حكمًا بتأييد السجن المؤبد بحق الرئيس المصري الأسبق محمد مرسي في قضية التخابر مع قطر.
وما زال هذا الحكم موضع تندر واستخفاف في أوساط شعبية عراقية عديدة عندما تقيس التخابر مع الأجنبي في العراق بالتخابر مع الأجنبي في غيره.
وقد يقول قائل عراقي إنَّ هذا الحكم القضائي مسيس، ويدخل في خانة الصراع السياسي والأمني والعسكري بين الإخوان المسلمين وبين نظام عبدالفتاح السيسي.
وقد يقول أيضًا إنَّ الظروف السياسية المصرية مختلفة جدًا عن الظروف العراقية، بحكم التوازنات القومية والطائفية والدينية والعشائرية والمناطقية المعقدة في العراق.
نعم، قد يكون هذا صحيحًا، ولكن لكل جريمة كان هناك عقاب، من أيام آدم وحتى اليوم.
فالتخابر مع جهات خارجية، خصوصًا إذا كانت معادية، يعني في لغة المحاكم، في شرعة العالم المتمدن وقوانين العشائر، نوعًا من العمالة والخيانة والتآمر مع حكومات أو قوى أو أحزاب خارجية تسعى لتحقيق أهداف خاصة تتعارض كثيرًا مع مصالح وطن المتخابر.
وبالرغم من أنَّ إسرائيل هي لأميركا بمقام الابنة المدللة، باعتبارها آخر العنقود، فإن قضية الجاسوس الأميركي جوناثان بولارد الذي قضى في السجون الأميركية ثلاثين عامًا لقيامه بتسريب معلومات ووثائق لإسرائيل، هي أكبر شاهد على ذلك.
كما أن الزوابع التي أقلقت الرئيس الأميركي دونالد ترامب ودوخته في رئاسته الأولى، وأطاحت ببعض كبار معاونيه، كان مبعثها شكوك لم تثبت قانونيًا حول قيامهم بـ"التخابر" مع السفارة الروسية، أو مع شخصيات حكومية تابعة لروسيا.
كل هذه الأحكام المتعلقة بالتخابر مع الأجنبي، في بلاد الله الواسعة، تكشف هول الخلل الذي لحق بالعراق، ليس بحكومته وحدها، بل بشعبه العاجز عن الحركة ذاته.
فقد أصاب سرطان التخابر مع الأجنبي رئاسات الجمهورية والحكومة والبرلمان والأحزاب والقبائل والحسينيات والمساجد والكنائس في العراق في زمن ديمقراطية المحاصصة، حتى صار، في عرف المجالس الشعبية العراقية، وليس المحاكم وحدها، أمرًا اعتياديًا مسموحًا به في دولة ثلاثة أرباع رؤسائها ووزرائها وقادة جيوشها وأمنها ومخابراتها من حملة الجنسيات المزدوجة. بل قد يكون سفير عراقي في بلد آخر من البلدان، عربيًا كان أو أجنبيًا، مواطنًا يحمل جنسية البلد الذي يمثل العراق فيه.
وأكثر من ذلك، عند أي خلاف جدي بين أطراف الحكم العراقي المتحاصصة يحج بعض لطهران، وبعض لأنقرة، وآخر لواشنطن، ورابع للرياض، وخامس للدوحة لفض الخلاف.
ولدينا قضاة وقادة أحزاب وميليشيات ووزراء ورؤساء أقاليم ينشرون صورهم وهم يصافحون قادة كبارًا في إسرائيل، دون خوف ولا حياء. وأكثر من ذلك، تعالوا نستعرض، معًا، تاريخ الأحزاب الحاكمة اليوم، والكثير من العشائر والشخصيات العراقية، ونتتبع، ليس فقط خيوط تخابرها مع مخابرات وجيوش خارجية، بل سجلّ حملها السلاح والقتال ضمن جيوش دول كانت أو ما تزال في حالة احتراب مع وطنها العراقي، بغض النظر عن عدالة تلك الحروب وأسبابها ودوافعها.
ولا يُنكر أحد من كل هؤلاء مشاركته في قتل ضباط وجنود من جيش دولته. بل يباهي بها وينشر الصور القديمة له وهو يقف مدججًا بالسلاح مع قادة عسكريين من جيوش أجنبية، من باب إظهار اعتزازه وفخره بـ"نضاله" من أجل أن ينتصر أعداء وطنه، ويحتلوا مدنه وقراه.
وقد سُئل قائد ميليشيا عراقية مرة: "مع مَن ستقاتل لو حدثت حرب بين وطنك العراقي وبين الجارة إيران؟"، فقال بوضوح وصراحة وافتخار: "سأقاتل مع دولة الولي الفقيه".
وليس هناك ضرورة لأن نستعرض تاريخ الطائفيين العراقيين (الشيعة) وندقق في حالات موالاتهم للنظام الإيراني ومناصرته، ظالمًا أو مظلومًا، سواء كان الحاكم في إيران هو الشاه أو الخميني. فذلك التاريخ معلن وموثق ولا يحتاج لبحث وتنقيب.
كما ليس هناك ضرورة أيضًا للحديث عن الجهات السياسية والدينية والعشائرية السنية وارتباطها الدائم بدول عربية أو بتركيا، وهي التي تجاهر بذلك، وتعده مظهرًا من مظاهر قوتها لردع أعدائها من الطوائف والأديان والقوميات العراقية الأخرى.
ومن يريد مزيدًا من البراهين والأدلة على ذلك، عليه فقط أن يمنح ساعة واحدة من وقته ليشاهد فضائياتهم، ويستمع لإذاعاتهم، أو لخطبهم في جوامعهم، وفي مقار أحزابهم ومضارب عشائرهم التي لا تنطفئ نار مناقلها، ولا تسكت دقات فناجين القهوة فيها.
أما النخب الكردية السياسية والعشائرية فلها تاريخ آخر طويل من الاستقواء بالخارج.
حتى أن سياسيًا كرديًا كبيرًا تباهى، في إحدى مقابلاته التلفزيونية، حين أراد أن يلفت النظر إلى أن الكرد هم سبب سقوط نظام صدام و"تحرير" الشعب العراقي، قال: "لولا الثورة الكردية لما اضطر صدام لاستخدام القوة العسكرية ضد مدن وقرى في شمال العراق يقاتل فيها أو يختبئ بعض ثوارنا. ولولا عنف صدام ضدنا لما تحالفنا مع شاه إيران. ولولا تحالفنا مع شاه إيران لما اضطر صدام لتوقيع اتفاقية الجزائر 1975. ولولا إقدام صدام على تمزيق اتفاقية الجزائر، فور سقوط نظام الشاه وتولي الإمام الخميني السلطة في إيران، لما اشتعلت حرب الثماني سنوات. ولولا حرب الثماني سنوات وأعباؤها الاقتصادية والسياسية لما أقدم على غزو الكويت. ولولا غزوه للكويت لما قررت أميركا إسقاط نظامه، وقد كنا نحن أكثر المتعاونين معها لتحقيق هذا الهدف الذي غير مجرى تاريخ العراق والمنطقة".
إن قصف مدينة حلبجة بالكيمياوي جريمة همجية بشعة لا تغتفر ولا يمكن تبريرها بأي عذر وأي سبب. ولكن الوقائع والشهادات والتحقيقات الدولية المحايدة أثبتت أن أحد أهم أسباب تلك الجريمة كان قيام الحرس الثوري الإيراني والمسلحين الأكراد المجندين معه باحتلال المدينة. ولكن قادة الجارة إيران وأنصارهم العراقيين، وأشقاءنا القادة الكرد، من جانبهم، جعلوا من حلبجة خاتم سليمان الذي يفركونه كلما احتاجوا لعفريت يخرج لهم ليقول: (شبيك لبيك، عبدك بين أيديك).
وحين أعلنت الأمم المتحدة أن النظام السوري هو الذي استخدم الغاز الكيمياوي في شيخون، لم تقل إيران وأحزابها الشيعية والكردية عن شيخون ما قالته عن حلبجة.
وأخيرًا، لو كان محمد مرسي عراقيًا، وعُرضت تهمته بـ"التخابر" مع الأجنبي على القضاء، لحكم له، وعلى الفور، بالبراءة. بل لما جرؤ أحد على إحالته للمحاكمة بتهمة التخابر، لكونه مسؤولًا كبيرًا في الدولة، نستمع، دومًا، إلى خطب عديدة في الجوامع والحسينيات والكنائس تدعو له بطول العمر، وتقام له حفلات التكريم دون خوف ولا حياء.