أشرق الصباح كما لو أنّ العالم يخرج من رحم الغياب إلى فسحة الحضور، يولد من جديد في لحظة تُشبه الوعد أكثر مما تُشبه الاعتياد. كانت الشمس ترسل خيوطها الأولى بخفّة حانية، فتغمر وجه الأرض بضوء يشبه لمسة أمّ توقظ طفلها من سباته الطويل. أوراق الشجر تلمع بقطرات الندى، كأنها لآلئ صغيرة خبأها الليل في أحضانها، فجاء النهار يكشف سرها. والعصافير، بخفة لا يملكها إلا مخلوق وُهب الحرية، كانت تتنقل بين الأغصان كأنها تطرز بخيوط أجنحتها وشاحاً من الأمل فوق فضاء لا يزال عذرياً، لم تلوثه ضوضاء النهار ولا صخبه.
تلك اللحظة لا تُشبه سواها، فهي توقظ في القلب إحساساً يضاهي ولادة ثانية للحياة. إنها مرآة يطل فيها المرء على ذاته، فيرى ليس انعكاس صورته، بل صدى وجوده، ويتعلم أن الإصغاء الأعمق لا يكون للأصوات، بل للصمت، ذاك الذي يتكلم بلغة أبعد غوراً من الكلام.
وقفت مأخوذاً أمام هذا المشهد، أخشى أن ينفلت مني كما تنفلت اللحظة النادرة من ذاكرة العابر. خشيت أن تمر النسمة فلا أحتفظ بأثرها، أو أن ينطفئ الضوء قبل أن يترك بصمته على وجهي. كان كل شيء من حولي يهمس: استمع لا للعصافير وحدها، بل لما وراء الغناء، لا لحفيف الأوراق فحسب، بل لما تخفيه من أسرار الخصب والذبول.
ومن عمق ذلك السكون، بدأت الأسئلة تنبثق داخلي كما لو أنها فقاعات صاعدة من بحر سحيق. ما سر الحياة؟ ولماذا تتبدل وجوهها بهذا النحو المتناقض؟ إشراق يتبعه غروب، ضحك يعقبه بكاء، اخضرار يمهد لذبول... ثنائيات أبدية تتعاقب كأنها النقوش الخالدة على جدار الزمن.
حاولت أن أقبض على فكرة واحدة تطمئن قلبي، لكن الكلمات تناثرت في داخلي كما تتناثر أوراق الخريف في مهب الريح. سألت نفسي: هل نعيش اللحظة فعلاً، أم أنها تتسرب من بين أصابعنا كما يتسرب الماء من كف لا تقوى على القبض؟ ألسنا أسرى لعقارب الساعة التي لا تكتفي بعدّ الوقت، بل تحصي أيضاً الأرواح الصغيرة التي تسكننا ثم تمضي؟ كل دقيقة تعبر بنا تحمل شذرات من ماض مضى، وتتركنا واقفين على عتبة مستقبل غامض، بينما الحاضر يتبخر سريعاً، بين "اليوم" الذي يصير "أمساً"، و"الغد" الذي يولد في انتظار أن يتحول إلى "اليوم".
إنها دائرة الزمن التي لا تهدأ، حيث يقيم الأمس واليوم والغد تحت سقف واحد. وجوه تتباين، نبرات تتعدد، غير أنهم جميعاً يتنفسون في ساعة واحدة، ويشرقون ويغيبون من نافذة واحدة.
تتعاظم الأسئلة في داخلي حتى شعرت بروحي كمركب صغير في بحر هائج، تتمزق أشرعته برياح الحيرة، وتتناثر مجاديفه بين أمواج الوجود. أعيد بصري إلى ما حولي، فأرى أن شيئاً لم يتغير: العصافير ما تزال تغرد، الأوراق تواصل رقصها مع النسيم، والشمس تمد خيوطها الذهبية فوق صفحة الطبيعة العطشى للدفء. كل شيء يسير وفق نظام دقيق، عجيب، لا يتأخر عن موعده ولا يستعجل.
وهنا فقط بدأت غيوم الحيرة تنقشع، وأحسست أن الطمأنينة تتسلل إلى أعماقي ببطء، تعيد ترتيب نبضاتي، وتلونها بلون هادئ يشبه طعم الرضا. أيقنت أننا لسنا سوى ذرّات تحملها ريح الحياة من مكان إلى آخر. قد نستقر لحظة ثم نمضي، قد نفنى جسداً لكننا نبقى روحاً عالقة في فضاء لا يحده زمان ولا مكان.
المعنى الأعمق الذي يتكشف في هذه اللحظة أن كل شيء يسير بانتظام محكم. ليست قطرة ماء تهبط من السماء إلا ولها مجرى مرسوم. ليست فكرة تولد فينا، أو كلمة ننطقها، أو دمعة تسيل، أو ضحكة تنطلق إلا ولها موضعها في دفتر الوجود. كل أثر، مهما بدا ضئيلاً، يترك بصمته في سجل الزمن الذي لا يُمحى.
وهذا الإدراك كاف لأن نتصالح مع أنفسنا، أن نعيش كل لحظة بصدق كامل، وأن نزرع فيها ما يبقى بعد رحيلنا. لسنا خالدين في أجسادنا، لكننا قادرون أن نخلد أثرنا في قلوب الآخرين: في كلمة صادقة نغرسها، في فعل نافع نتركه، في ابتسامة تزيل عن وجه أحدهم وجعاً، أو في دفء يرمم كسراً داخلياً.
الحياة، في جوهرها، ولادة دائمة. كل صباح يولد العالم من جديد، وكل قلب قادر على أن يفتح نافذته ليطل على بداية أخرى. سر الوجود لا يكمن في أن نعيش طويلاً، بل في أن نعيش بعمق، وأن نترك في رحلة الزمن بصمة لا تُمحى.