صدرت حديثاً عن "محترف أوكسجين للنشر" في أونتاريو مجموعة شعرية جديدة للكاتب والشاعر السعودي حامد بن عقيل، بعنوان "الوحدة حرّية حزينة"، استهلّها بإهداء إلى "قراصنة العالم القديم وشعرائه" كتحيةٍ من شاعرٍ يعيش خراب العالم الجديد في أدق تفاصيله.
ليس غريباً إذاً أن يضعنا الشاعر حامد بن عقيل منذ الأسطر الأولى للكتاب في حالة ترقّب وانتظار: "جميعُنا/ ننتظر معجزةً/ نيزكاً حجمُهُ ضعفُ حجم المشتري/ ثوراً هائجاً في الفضاء ينطح الأرض". متسائلاً منذ البداية عن الشرط الإنساني وكيف تتحقق المعجزة التي هي "الحياة"، فالكلُّ هنا ينتظر، كنسخٍ حديثة من إنسان هذا العصر. لا شكَّ أنه "عصر الويلات"، يستنجدُ فيه الشاعر بكل الأشياء المشابهة لحياةٍ يشعر أنها تطارده في المنام، بين صفحات الكتب والأساطير القديمة، وحتى في أوقات شرب القهوة بحيادٍ كل صباح، مدركاً أن الانكسار المستمرّ قد يكون سؤالاً جارحاً وحقيقيَّاً من قبيل: "ما الذي ستضيفه قصيدتي إلى هذا العالم؟"
تتوالى القصائدُ بجُمَلِها المكثّفة، بأسطُرها الشعرية المُحكمَة، والتي تبدو كلافتاتٍ مضيئة في طريق معتم طويل، تحيلُ القارئ إلى جهاتٍ جديدة للاكتشاف والمغامرة، بحثاً عن المعنى، وعن تعريفٍ جديدٍ للقصيدة، تلك "الشعلة التي ستجد طريقها إلى قلوب المحبّين وستنتصر على هشاشة الحياة". هكذا وكما جاء في كلمة الغلاف: "يجابه الشاعر السعودي حامد بن عقيل بالرفض والتمرّد عالماً معطوباً، حاشداً جمهرة من المهمَّشين والقراصنة والسكارى والنساء الوحيدات والأطفال منزوعي الأحلام؛ مستمداً منهم الحياة والحبّ والجمال، متخذاً من التجريب والمغامرة معبراً شعرياً وإنسانياً إلى ما تبقّى من نزاهة ونقاء فوق هذا الكوكب الآيل للخراب، فقصائده في هذا الكتاب لها أن تغضبَ وتتهكّم، تصرخ وتئنّ، وهي تمضي بنا عبر دروب الحرِّية، منذ ملاحم العالم القديم إلى معارك نهاية الزمان".
يُصغي الشاعر حامد بن عقيل لكلِّ أوجاع الذينَ يتقاسمون معهُ لحظة الانهيار الكبرى هذهِ، صانعاً من أحلامهم المنتهكة ملحمة شعرية ضدَّ الظلم والقهر واللامبالاة. كما نقرأ في "قصيدة لحياةٍ ما":
...لكنّني سمعتُ أحد الجالسين يدمدم:
زوجتي تُحْتَضَرُ في مدينةٍ مجهولة
لو كنتُ أستطيعُ قطعَ الربع الخالي ماشياً!
قلتُ له:
الوحدةُ حرّيَّةٌ حزينة
تلك الزوجة ماتتْ منذ عصر المغول
حتّى حزنُكَ عليها
صار أغنيةً حماسيّة في براري آسيا
سمعَها المقاتلون الأوائل.
يستحضر الشاعر عبر صفحات الكتاب ملائكة يعبرون أمامه في أثناء تتبّعه لنشرة الأخبار، كمن يشاهد "أرضاً مثقوبة ثمَّ يجلس على خرابها"، وفي قلبِ الدمار، يختبر ملاكاً يتهرّب من السؤال في قصيدة "حِيادُ مَن امتلك العالَم":
أعيد سؤاله عن طفل في سورية لم أعد أراه
يجيب: هو الآن يأخذ بأيدي كلّ قاتليه الذين يتزاحمون على معبر اللحظة الفاصلة
يدلُّهم على الجحيم ثمّ يعود.
لا خلاص ولا فناء إذاً، لا بدايات واضحة ولا نهايات حتمية، ورغم أن الخراب عميم، إلا أننا نكتشفُ مع الشاعر دهشة السؤالِ الذي يضيء، عابراً مدناً وقارّات، قارئاً كتبَ وأشعارَ العالم القديم، ناسجاً أساطير وحكايات، مقطوعات موسيقية وأغنيات، وها هو السؤال يتجدّد في قصيدة "عَطب" كما لو كان بوصلة:
أما تزالُ خطواتكِ الملعونة توقظُ الهائمين في الأزقّة؟
ألعينيكِ بريق أغاني البحّارة السكارى؟
أوجدتِ ظلّي؟ كي أستعيدَ قصصَ العالمِ وأشعارَهُ
ثمّ أرسمها وشماً.
هذا ما بقي لي الآن...
أما ما بقي لنا في هذا الكتاب فهو شعرٌ خالصٌ يمضي بنا عبر دروب مترامية وعوالمَ صاغها الشاعر حامد بن عقيل في 88 صفحة بلغةٍ تتحدّى الزمن وتكلّساتهِ، مستعيدة جماليات التكثيف، والصدمة، والبحث عن إيقاعٍ يهزم الرتابة وينتصر للإبداع والحرية. نقرأ في "مدن مبتورة":
في مدن بلا خرائط
يمكن أن أكتب قصّةً عن الموسيقى
وأخرى عن الرصاص.
وحامد بن عقيل شاعر وناقد وروائيّ من السعوديّة، مواليد الطائف، 1974. صدر له شعراً: "قصيدتانِ للمغنّي مرثيتان توغلان في دمي"، (1999)، "يوم الرّب العظيم"(2005)، "يجرّد فوضاه" (2009)، "إله المسخ" (2010)، "في عالمٍ ننكره"، (2024). ومن رواياته: "الرواقي" (2008)، و"جمهورية أهريمان"، (2024)، و"منازل الموت"، (2025). صدر له في النقد: "فقه الفوضى"، (2005)، "إله التدمير"، (2010)، و"ممحاةُ العدم"، (2024). كما أصدر في الفلسفة وقضايا الفكر: ثلاثية بعنوان "سيرة افتراضية" (2006-2009)، و"صناعة الكهنوت"، (2025).