: آخر تحديث
فيلم وثائقي يحيي قصة امرأة عاشت في ظل حكم السلطان قايتباي

فاطمة الشقراء... من كازان إلى القاهرة

3
3
3

إيلاف من القاهرة: في قلب تتارستان الروسية، وبين شوارع القاهرة القديمة، يبدأ أحمد خالد رحلته المستمرة للبحث عن الجسور المفقودة بين التاريخ والفن، بين الماضي والحاضر، وبين الشخصيات المجهولة وأثرها في تشكيل الهوية. سلسلة مقالاته الشهيرة «في حب التتار» كانت الخطوة الأولى، حين أعادت الاعتبار للتتار وكشفت براءتهم من الجرائم التي نسبها إليهم التاريخ زورًا، لتظهر حقيقة غير مألوفة؛ أن الإسلام كان دين تتارستان الرسمي منذ عام 922م، وأن فقهاءها ومفتييها، مثل الإمام راوي عين الدين، تبنوا خطابًا متقدمًا يدعو للتعايش السلمي والحوار بين الثقافات، مع الاعتزاز بالهوية الوطنية والفنون.

من المقال إلى المراجع، ومن المراجع إلى الفيلم، انتقلت رحلة أحمد خالد ليقدم للعالم فيلمه التسجيلي الجديد «فاطمة الشقراء.. الروسية التي كانت سلطانة مصر». الفيلم يستعيد ذاكرة أمة، حين تتحول أسيرة حرب إلى سلطانة مؤثرة، يحمل اسمها مسجد في القاهرة، هذا المسجد الصغير، القائم بجوار الخيامية في حي الدرب الأحمر بالقاهرة، أنشأه الأمير رشيد الدين البهائي عام 873هـ (1468م) خلال حكم السلطان الأشرف قايتباي، ويحمل بين طياته تفاصيل بسيطة وعميقة، شاهدة على حضور امرأة تجاوزت حدود الزمن والمكان.

مشروع الفيلم الوثائقي يهدف إلى إحياء قصة فريدة لفاطمة الشقراء، التي عاشت في مصر خلال القرن الخامس عشر. ويركز على فترة حكم السلطان قايتباي من عام 1468 إلى 1496م، وعلى أحداث الحروب والصراعات بين المماليك والعثمانيين، خاصة بين 1485 و1490م، حين حاول السلطان العثماني بايزيد الثاني السيطرة على بلاد الشام. خلال هذه الحروب، غنم المماليك فتاة تترية مسلمة بالغة الجمال تتحدث العربية، التي أعجب بها السلطان لما جمعت بين جمالها ولغتها، وربما لأن وجهها ذكّره بأصوله التترية. تزوجها لتصبح أول امرأة تترية تتزوج من حاكم مصري، وتحمل لقب سلطانة مصر، كما كانت والدة سلطان أصبح لاحقًا الناصر ابن قايتباي.

كان اهتمام المماليك بتخليد أسمائهم دافعًا لفاطمة الشقراء لبناء ورعاية مساجد ومدارس وأعمال خيرية، لتظل ذاكرتها حاضرة. مسجدها الأنيق في القاهرة لا يزال يحافظ على اسمه ويستقبل المصلين يوميًا، شاهدًا على إرثها الذي لم يندثر.

الفيلم يسعى إلى إعادة بناء الجسور الثقافية بين الحضارات القديمة، ويعد حلقة وصل بين مصر وتتارستان، ويتناول موضوعات متعددة: التعريف بمسجد فاطمة الشقراء، السيرة الذاتية لفاطمة، التأثير النسائي في التاريخ الإسلامي، العلاقة التاريخية بين مصر ومسلمي روسيا، ودور الأسيرات والسبي في التنوع الثقافي. كما يصحح الفيلم بعض المفاهيم المغلوطة حول التتار، ويوضح أن المغول هم من شنوا الغزو على العالم الإسلامي، ويبرز نموذج التعددية والتعايش السلمي في تتارستان، من خلال مقابلات مع السكان المحليين وخبراء التاريخ والعمارة المملوكية ومؤرخين نسويين وباحثين في التفاعلات الثقافية الإسلامية.

تبدأ رحلة الفيلم بمشهد افتتاحي في القاهرة، حيث تنزلق الكاميرا فوق أفق المدينة وتمر بالأحياء القديمة، مع أصوات الأذان وتعليق صوتي لفتاة تقول: "القاهرة... مدينة تحمل بين جدرانها أرواح الإناث الخالدات. المساجد هنا ليست بيوتًا للصلاة فقط، هي شاهدة على نساء من نور... هناك اسم آخر أقل شهرة لكنه أكثر غموضًا... فاطمة الشقراء". تتابع الكاميرا مجموعة فتيات تتاريات ومصريات في زقاق حجري، ويظهر مسجد فاطمة الشقراء، وتتحرك العدسة بين الزخارف حتى المحراب الحجري، ثم زاوية صغيرة بها قبر مكتوب عليه "هذا قبر السيدة فاطمة".

يستعرض الفيلم رحلة الفتاة التترية للبحث عن قصة فاطمة، مع تنقل بين القاهرة وكازان، والتعرف على نمط الحياة الديني والثقافي في مصر وتتارستان. ينتهي بمشهد وداع مؤثر، حيث تشير الفتاة إلى المئذنة وباب المسجد قائلة: "اسمي فاطمة الشقراء".

أثار الفيلم نقاشًا واسعًا حول إعادة قراءة التاريخ وإحياء الشخصيات المجهولة. وصل الفيلم إلى صدارة الأفلام التسجيلية المشاركة في مهرجان "المنبر الذهبي" السينمائي الدولي في كازان – جمهورية تتارستان – الاتحاد الروسي – موسكو، ما يعكس تقدير المجتمع الدولي لقيمته الفنية والتاريخية، ويؤكد مكانته كجسر للحوار بين الحضارات.

بهذا العمل، يستكمل أحمد خالد رحلته في حب التتار، ويثبت أن المعرفة التاريخية حين تتقاطع مع الفن يمكن أن تُعيد تشكيل فهمنا للهوية والتعايش، وتفتح نافذة جديدة على شخصيات نُسيت في زوايا التاريخ، لكنها ما زالت حاضرة بيننا في صمت الحجر، وأنين الأزقة القديمة، وفي بريق العيون التي لم تفقد الدهشة أبدًا.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في ثقافات