: آخر تحديث

ابنة أوروك: قراءة أسلوبية في قصيدة جواد غلوم

2
2
3

تمثل قصيدة "ابنة أوروك" للشاعر جواد غلوم نموذجاً بارزاً للتجربة الشعرية الحديثة التي تنبني على استدعاء الرموز الحضارية والتاريخية لرفد التجربة الذاتية بأبعاد جماعية وقومية. إنّ عنوان القصيدة ذاته يحيل إلى العمق الحضاري الرافديني (أوروك مدينة سومرية عريقة) ويؤسس منذ اللحظة الأولى لإطار أسطوري يندمج فيه الحب بالغربة، والوطن بالمرأة، والذات بالشعور الجمعي. ومن هنا تأتي أهمية مقاربة النص بمنهج الأسلوبية، الذي يركّز على تحليل البنية اللغوية والبلاغية والرمزية، باعتبارها مفاتيح تكشف عن البنية العميقة للقصيدة وتضيء تفاعل الشاعر مع موضوعه. يحمل عنوان القصيدة "ابنة أوروك" شحنة دلالية كثيفة؛ فهو يربط موضوع الحب الشخصي بعمق تاريخي – حضاري. فالحبيبة ليست امرأة فردية فحسب، بل هي رمز متجسد للحضارة العراقية القديمة، وللوطن المتنوع بتراكماته العرقية والثقافية (عرب، أكراد، تركمان). بذلك يصبح العنوان نقطة انطلاق لفهم شبكة المعاني التي ينسجها النص: الحبيبة/الوطن، الغربة/الاغتراب، الحب/الانتماء.

يظهر النص معماراً لغوياً متماسكاً، حيث يمزج الشاعر بين البنية التقليدية للقصيدة (الإيقاع العمودي والروي المنتظم) وبين انزياحات أسلوبية تخرق النمط المألوف. نلاحظ في المطلع: "ما أنتِ يا معشوقتي! كم أشتهي لقياك وجدا". الجملة الاستفهامية الافتتاحية ليست استفهاماً حقيقياً، بل إنكاري/تعجبي، وهي تقنية أسلوبية تُبرز دهشة الشاعر أمام حضور المحبوبة الغائب. ثمّ يليه فعل الرغبة "أشتهي" المؤكد بالمصدر "وجداً"، ما يخلق انزياحاً عن الاستعمال العادي ويجعل اللغة أكثر انفعالاً وكثافة. كما يستعمل الشاعر تقابلات متكررة: "جذباً وشداً"، "هجرًا وصداً"، "نأياً للبعيد / تركتني في الأرض فرداً". هذه الثنائيات ليست محايدة، بل تشي بالتمزق الوجودي للشاعر، وهو ما يجعل النص مشبعاً بطاقة توترية أسلوبية.

يتجلّى ثراء الأسلوب في كثافة الصور: حيث المجاز الحسي: "أنفاسها زهر الجنان / أشمها عطراً وورداً". هنا تتداخل الحواس (الشم/الرؤية/اللمس) في بنية استعارية واحدة، ما يعكس شغفاً حسياً وجمالياً. على صعيد المجاز الرمزي: "بنت العراق سليلتي / ممزوجة عرباً وكرداً". لم تعد الحبيبة جسداً أنثوياً، بل جسداً وطنياً مركباً، يجمع الأعراق والثقافات في وحدة شعرية. وعلى مستوى المجاز الكياني: "فذا الحسام يريد غمداً". يتحول الحب إلى سيف يبحث عن غمد، في إشارة إلى اتحاد الشاعر بالوطن/الحبيبة كشرط لوجوده المتوازن. بهذا يتجاوز النص مستوى الغزل الفردي إلى مستوى رمزي جماعي، حيث تصبح المرأة مرآة للعراق ذاته.

الإيقاع والأسلوب الصوتي

يحافظ النص على إيقاع عمودي منتظم (بحر الكامل)، لكن الشاعر يضخّ فيه تنويعاً صوتياً عبر التكرار والجناس والطباق. حيث التكرار: "لم ألقَ"، "أنّى التفت"، "بقيت على عهد اللقاء"، وهي صيغ أسلوبية تمنح النص بعداً إنشادياً وتؤكد معنى الإصرار والثبات. ويتبدى الجناس: "عسلاً وقنداً"، "لبناً وشهداً"، مما يضفي موسيقى داخلية ويبرز التوازن النغمي بين المعاني. ويظهر الطباق: "هجرًا/صداً"، "متنقل/ثابت"، وهي أدوات أسلوبية تولّد توتراً دلالياً يوازي توتر التجربة العاطفية والوجودية. الإيقاع هنا ليس مجرد شكل، بل وظيفة دلالية، إذ يعكس التذبذب بين الحضور والغياب، الوفاء والخذلان، الوحدة والانتماء. يلجأ الشاعر إلى الحوار المباشر مع الحبيبة، كما في قوله: "وتقول لي عند المزاح / أيا جواد: أخنتَ عهدا؟؟" هذا المقطع يخرق رتابة الخطاب الأحادي ويفتح النص على صوت آخر. إدخال صوت الحبيبة يمنح النص حيوية درامية ويجعل التجربة أكثر واقعية ودفئاً. ثم يأتي رد الشاعر: "فأجيبها متضاحكاً / عرقوب لا يوفيكِ وعداً" يستعمل الشاعر هنا الإحالة التراثية (عرقوب رمز الغدر) في سياق ساخر، ما يعكس مرونة أسلوبية تجمع الجدّ والعاطفة بالتهكم الخفيف.

التناص التاريخي والحضاري

القصيدة مشبعة بالإحالات الحضارية، بدءاً من العنوان "أوروك" وصولاً إلى تصوير الحبيبة كخلاصة للأعراق العراقية. هذا التناص التاريخي ليس زخرفاً بل أسلوبية مقصودة: فهو يحوّل موضوع الغربة والحب الشخصي إلى قضية وطنية/حضارية. بذلك تتخذ الأسلوبية بعداً ثقافياً، حيث يندمج المستوى الجمالي بالمستوى التاريخي. يمكن قراءة النص بوصفه حركة أسلوبية بين ثلاثة محاور: الوجد العاطفي: يتجلى في كثافة الأفعال الوجدانية (أشتهي، أشتاق، لم ألقَ، أشمّها، أجيبها). والغربة والاغتراب: "في غربتي متوحد"، "تركتني في الأرض فرداً". هذا البعد يتكرر في النص ليؤكد انكسار الذات أمام البعد الجغرافي والنفسي. والثبات والوفاء: "بقيت على عهد اللقاء"، حيث يضع الشاعر الحبيبة/الوطن في مقام الوفاء رغم قسوة البعاد. هذه المحاور الثلاثة تترابط عبر الأسلوبية (التكرار، الصور، الإيقاع) لتشكّل نسيجاً متماسكاً.

مستويات الدلالة، تبرز في الدلالة الفردية: الشاعر عاشق يفتقد حبيبته. والدلالة الجماعية: الحبيبة رمز للوطن العراق بأعراقه المتعددة. والدلالة الحضارية: استدعاء أوروك يشير إلى عمق التاريخ واستمرار الهوية العراقية منذ آلاف السنين. بهذا يصبح النص طبقات من المعنى، لا تُختزل في خطاب غزلي بسيط، بل تنفتح على أفق إنساني وتاريخي. قصيدة "ابنة أوروك" لجواد غلوم نص غني من الناحية الأسلوبية، إذ تتشابك فيه اللغة الوجدانية مع الصور الرمزية، ويتناغم الإيقاع التقليدي مع الانزياحات الأسلوبية الحديثة. العنوان يربط الحب الفردي بالهوية الحضارية، فيما تكشف الصور والاستعارات عن توتر الذات بين الغربة والانتماء. إن المنهج الأسلوبي يبرز كيف أن البنية اللغوية والصوتية والرمزية في القصيدة ليست مجرد أدوات شكلية، بل هي عناصر كاشفة عن التجربة الوجودية للشاعر ووعيه الجمعي. ومن هنا تتجلى أهمية النص بوصفه لحظة شعرية تعيد وصل الذات بتاريخها، والحب بالوطن، والفرد بالجماعة.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في ثقافات