إيلاف من أصيلة: تحت عنوان "الوفاء"لمحمد بن عيسى، "الإنسان"و"المدرسة"، "المعلّم الملهم" و"الرائد الفذ" و"الوزير المقتدر" و"الفقيد العزيز"، تواصلت أخيرا أشغال الندوة التكريمية التي حملت عنوان "محمد بن عيسى.. رجل الدولة وأيقونة الثقافة"، ضمن فعاليات موسم أصيلة الثقافي الـ 46، في دورته الخريفية، في جلسات شهدت مشاركة نخبة من الشخصيات الفكرية والسياسية من المغرب، ومناطق متفرقة من العالم العربي وإفريقيا والعالم ، أجمعت واجتمعت على احترام وتقدير تجربة رجل توحدت حوله مشاعر الفقد.
قيد حياته، أقام بن عيسى خيمات عدة لتكريم مبدعين ومفكرين، تقديرا منه لعطاءاتهم، وها هي "خيمة الإبداع" التي أسسها، واختار لها أن تكون من أيقونات موسم أصيلة، ترد للراحل - كما كتب عبد الإله التهاني، الكاتب والإعلامي، المدير السابق للاتصال والعلاقات العامة بوزارة الاتصال المغربية، والمشرف على هذا اللقاء التكريمي – "تحية الوفاء والبرور"، و"تحتفي بشخصيته الفذة في أبعادها الثقافية والديبلوماسية والإنسانية"، و"تستعيد بكل امتنان وعرفان، ما قدمه لمدينته من عطاء وفير، في ساحة العمل الاجتماعي والمدني والإحساني".
جاءت شهادات المشاركين دافئة المشاعر بملمح حزين، يُشعرمضمونها المستمع كما لو أنها كتبت من طرف شخص واحد، سوى أنها، بقدر ما وقعت بأسماء متعددة، توظف ذات المعجم والعبارات التي تتوحد في ترجمتها لصدق مشاعر مشتركة نحوشخص واحد هو الفقيد بن عيسى.
كاريزما
كان محمد نبيل بنعبد الله، الوزير والسفير السابق، وأمين عام حزب التقدم والاشتراكية المغربي، من بين المتدخلين في ثاني جلسات الندوة. قال إن بن عيسى، فضلاً عن الشغف الذي يَسكُنُهُ إزاء كل ما يهتمًّ به، كان رجلا "يملك من الكاريزما ومن الحضور الطاغي، ما يجذب الانتباه إليه، منذ أول لقاءٍ معه. صوتٌ جهوري، إتقانٌ بطلاقة للغاتٍ متعددة، متحدثٌ بارع، جَمَعَ ما بين العُمق والطرافة، بين سلاسة التعبير ووضوح الفِكرة، بين مرونة الحوار والإنصات، والقُدرة الهائلة على الإقناع، ما أكسبَهُ سحراً ناعماً، فتح أمامه أبواباً وعلاقاتٍ، ما كانت لتُفتح لغيره".
وأشار بنعبد الله إلى أن "كفاءات ومواهب الفقيد، كانت قد أثارت انتباه الملك الراحل الحسن الثاني"، رغم أن بن عيسى "كان مشاكساً، بالمعنى الفكري للكلمة، ولم يكن من صنف الرجال الذين يُسايِرون، عن تملُّقٍ أو مجاملةٍ أو طموح أو خجل،أيَّ توجُّهاتٍ أو سياساتٍ،ما لمُ يَكن مقتنعاً بها".
ودعا بنعبد الله إلى الإقرار، بأن ما أسهم به بن عيسى، وطنيا وعالميا ومحليا، "لم يكن محض صدفة، بل كان محصِّلَة شخصية متميزة، وهو الذي كان قارئاً نَهِما، متابعاً لكل جديد في عالم الفكر والثقافة والسياسة، مساهماً في عدد من الملتقيات الثقافية العالمية، مُحِباًّ للجلسات الأدبية والفكرية، مستضيفاً كريماً وسخيًّا في بيته العامر، في الرباط كما في أصيلة. يفتح الأبواب والعقول على السواء".
وأضاف بنعبد الله أن بن عيسى، كان "رجلاً يمتلك مقومات ومؤهلات رجل الدولة بامتياز"، و"مدرسةً قائمة الذات، وواحداً من أولئك الذين أعطوا للوطن، دون حساب. لا يطلب شيئاً لنفسه ولا يُهادِنُ، حين يتعلّق الأمر بمصالح الوطن. في رحيله، خسرنا صوتاً منفتحاً، وعقلاً مستنيراً، وقلباً مؤمناً بقيمة الإنسان، ووِجداناً ظل وفياً لتربته حتى النهاية".
منشد الكونية
من جهته، وجه الشيخ تيجان غاديو، رئيس المعهد الإفريقي للإستراتيجيات (السلام – الأمن – الحوكمة)، ووزير الشؤون الخارجية في السنغال سابقا، "تحية إجلال إلى إنسانيةٍ متجسدة، إلى رجل ثقافة، دبلوماسي بارز، منشد الكونية، وصانع لا يكلّ من أجل حوار الشعوب والثقافات".

تيجان غاديو وزير خارجية السنغال سابقا
وأضاف: "في عالمٍ جديد تزلزلت أركانه حيث "القوة حلّت محل الحق"، وحيث "أجنحة الفولاذتحجب ضحكات بالكاد وُلدت"، كانت إنسانيتنا بحاجة أكثر من أي وقت مضى إلى محمد بن عيسى. اليوم أكثر من الأمس!".
ورأى غاديو أن هذا "الابن البار للمملكة المغربية المباركة، الذي لم يُرسَل إلى هذه الأرض ليقف متفرجًا عاجزًا أمام "مآسي العالم" (كامو)، ربما فضّل أن يعفي نفسه من قبح العالم المعاصر ويرحل، محتفظًا من مقامه الأرضي بصورٍ من عالمٍ كانت الجمال، والحب، والشعر، والأخوّة لا تزال تسكنه!".
وتحدث غاديو عن ""ابتسامة" بن عيسى الأسطورية، التي كان يعتبرها سلاحه وسرّ قوته"، مشيرا إلى أن "كل الذين عرفوه وأحبوه واحترموه، سيبقون متأثرين إلى الأبد بحضوره المبتسم، ورغبته الدائمة في إضفاء البهجة بمزحة أو دعابة، ليُذكرك بأن الحياة، رغم قسوتها، هي شعر وابتسامة. ذلك هو السر الذي جعل محمد، قبل أن يرحل عنا، قد تزوّج بالفعل من الخلود ومن الأبدية، التي تخص الاستثنائيين، الذين يتركون في هذا العالم، ذكرى لا تُمحى وأثرًا خالدًا".
وخاطب غاديو بن عيسى: "محمد، ستظل حيًا في كل واحد منا، نحن أصدقاؤك الأوفياء... آمنت دائمًا بالشمس التي تفور من أصواتنا وأقلامنا. فينا ستظل خالدًا!".
مكتبة تتحرك
رأى عبد الرحمن شلقم، وزير خارجية ليبيا سابقا، أن بن عيسى "كان حشدا من الرجال والعقول، مكتبة تتحرك في مسار طويل، من عبر بابها سكنها، ولا يغادر دنياها".
وتحدث شلقم عن تطور علاقته ببن عيسى، مشددا على أن "كيمياء الصدق والصداقة"، التي "كانت رحابا طفنا بها سنينا طويلة"، قد "زادت اتساعا في مسيرة الزمن".
وأثنى شلقم على فكر وهدوء ورؤية بن عيسى، وحكمته التي "تتحرك بين الصمت والكلام"، حين كان وزيرا لخارجية المغرب، وكيف كان "يجمع بين دبلوماسية الثقافة، وثقافة الدبلوماسية، والأمل والصبر".
وبعد أن قال إن بن عيسى أقام في عقله وقلبه، مع الرجال الكبار من زعماء العالم، شدد شلقم على أن الراحل كان "ومضة فكرية، عابرة لبرزخ الزمان والمكان، تلألأت عقودا في رحاب مدينة أصيلة، التي أسس فيها منارة يشع نورها، على البلاد العربية والبحر الأبيض المتوسط، وإفريقيا والعالم".
وأضاف شلقم: "نستطيع أن نقول اليوم إن مدينة أصيلة، بيت محمد بن عيسى، هي دار الحكمة الإنسانية المتجددة. هذا الصرح الفكري الشامخ، سيبقى مضيئا دون توقف، بقوة حضور الراحل الكبير. جدارية أصيلة ستبقى حية، تجمع العقول، تضيف إلى حياة الفكر الفاعل، بإرادة قيادة عاشت في بستان مزهر، زرعته عبقرية محمد بن عيسى الرائدة".
دافئ القلب
بدوره، قال حسن أبو أيوب، الوزير السابق وسفير المملكة المغربية لدى رومانيا، إن بن عيسى "ينتمي إلى تلك الفئة النادرة من الأشخاص الموهوبين"، مشيرا إلى أن شخصيته الغنية جمعت بين قدرات فكرية عالية، وحساسية مرهفة، وإبداع يتغذى من فضوله وكماله. واستمدّ زاده الثقافي من منابع متنوعة: العربية، الإفريقية، اللاتينية، الإسبانية والأنجلوسكسونية، فحاول أن يصوغ منها توليفة فكرية معقّدة بطبيعتها، تجلت في تواضعه، ولباقته، وانفتاحه النادر.
وأضاف أبو أيوب: "بصفتي زميلا، أشهد على ولائه الشديد للمؤسسة الملكية، وللمصالح العليا للوطن. لم يكن ولاؤه سياسيًا فحسب، بل كان أخلاقيًا. كان يجسد فكرة أن خدمة المغرب لا تكون بالصخب ولا بالسعي وراء الاعتراف الشخصي، بل بالثبات، والنزاهة، والانضباط. واجه سي محمد الكثير من الصعوبات والاتهامات الأيديولوجية التي لم يكن يراها تمثله، وكان يعرف كيف يصبر ويترك للزمن كلمته، خصوصًا تجاه منتقديه".
وخارج الإطار الرسمي، يضيف أبو أيوب، كان بن عيسى "رجلاً دافئ القلب. وراء مظهره الهادئ كان هناك حس مرهف، وفكاهة رفيعة، وشغف بالثقافة، والكتب، والشعر. كان ينظر بعين المحبة لكل ما هو روحي وفكري، وهذا ما جعله دبلوماسيًا مميزًا. كما كان يعرف أن للكلمة وزنًا، وللحديث التزامًا، وللرمز قوة لا تقل عن الفعل". وأضاف: "لكن، أكثر ما يبقى في ذاكرتي وأنا أفكر فيه اليوم، هو الصداقة. الصداقة الصادقة، العميقة، المستمرة، التي تُبنى على الاحترام المتبادل؛ والالتفاتات البسيطة والصمت المشترك والمعبر كما على النقاش العميق. كان محمد صديقًا وفيًا، كريمًا، نبيلا. إن رحيله خسارة كبيرة للمغرب، وللدبلوماسية، وللثقافة، ولجميع من أتيحت لهم فرصة السير إلى جانبه. لقد ترك لنا إرثًا من الالتزام والحكمة والرقي. ترك لنا صورة نادرة: صورة رجل دولة ظل إنسانًا بكل ما تحمله الكلمة من معنى".
الكرم والجود
قال الحسن ولد لبات، الأستاذ الجامعي، ووزير خارجية موريتانيا سابقاً، إن بن عيسى كان سبّاحاً ماهراً في فضاءات عوالم متنوعة، حاذقاً في نسج الصلات والصداقات الحميمة، مع جموع غفيرة من رجال السياسة والفكر والفنون، من شتى المشارب والألوان. كما كان صانع علاقات إنسانية، بشتى الخيوط والأنسجة. وفي مجال الأخلاق، "كان معلّماً لا يحتاج إلى الإفصاح، للنفاذ إلى الألباب".

محمد الحسن ولد لبات وزير خارجية موريتانيا سابقا
ورأى ولد لبات أن سلوك بن عيسى ومعاملاته إزاء الآخر، انبنت على رباعية لم يحد عنها.
أولا، البساطة والتواضع، وقربه من الناس البسطاء، واحترامهم، والرأفة بهم، والعناية بأحوالهم.
ثانيا، احترام الآخر، مهما بلغت هوة الخلاف معه، هو الذي رغم رسوخ قناعاته، لم يُحاسب قط خصماً، على أساس اختلاف الرأي.
ثالثا، رهافة الحس، إذ كان قناصاً بارعاً لمخيال الجليس، سريع البديهة، دقيق الحدس، رقيق الذوق.
رابعا، الكرم والجود وحسن الضيافة. فكل من عاشره أو ارتاد منتدى أصيلة، شعر بدفءعطفه وحنانه، حتى يخيل لكل واحد منهم، أنه نال من عنايته ما لم ينله غيره.
التواضع والوفاء
في ثالث جلسات ندوة التكريم، قال محمد الهادي الدايري، وزير خارجية ليبيا سابقا، "إننا عندما نتحدث عن بن عيسى، لا تواجهنا صعوبة في ذلك، لكن التحدي قد يطرح نفسه، عندما نتطرق إلى أحد معالم شخصيته التي تريحنا، لأننا عرفناه من خلالها. لكن سيرته، لا يمكن اختزالها في الثقافة أو الدبلوماسية، وهو ما عرف عنه نتيجة مسؤوليات، اضطلع بها على رأس وزارتي الثقافة والخارجية في المغرب.
ونوه الدايري بسمات أخلاقية عديدة ميزت بن عيسى، كان التواضع إحداها؛ قبل أن يُذكر بنشأة الراحل في كنف أسرة يغلب عليها الطابع الديني والصوفي، وتعلمه في المدرسة القرآنية، الشيء الذي أهله للثقة في النفس والتواضع. لكن بن عيسى، يضيف الدايري، يرتبط في ذهنه بميزة أخرى استثنائية، ألا وهي الوفاء.
وصية بن عيسى
تحدث محمد أيت وعلي، سفير المغرب في القاهرة، عن الراحل، كما عرفه واشتغل إلى جانبه في موسم أصيلة ومؤسسة المنتدى، مشيرا إلى أن بن عيسى رحل تاركا هذه المؤسسة غير الحكومية الكبيرة والغنية، وقد "نضجت واشتد عودها، وأدركت نضجها".
وقبل موته بأيام قليلة من وفاته، يضيف أيت وعلي، "طلبني بالهاتف، ليخبرني أن رحلته في الحياة، قد أوشكت على نهايتها، قائلا "أوصيك خيرا بموسم أصيلة الثقافي الدولي، فهو أمانة عندكم، لا تتركوها مجرد ذكرى، أنتم الفريق الذي رافقني، وأنا أرفع دعائم هذا الصرح الثقافي الدولي الكبير. وأوصيك أن تكون، كما كنت دائما عونا، للأمين العام الجديد".
وشدد أيت وعلي على أن أصيلة كانت عند بن عيسى، هي "العشق والمعشوق"، هو الذي "أنفق خمسة عقود من حياته، في سبيلها".

السفير محمد ايت وعلي والكاتب الصحافي الصديق معنينو
الارتباط بالأصل
قدم الكاتب والإعلامي المغربي الصديق معنينو، جملة ملاحظات حول بن عيسى، الإنسان والمسؤول والفاعل الثقافي، مشددا على أنه طوع الثقافة للسياسة، ومارس السياسة بذكاء.
وأضاف معنينو أن قوة الراحل تتمثل في أنه اشتغل للمحلي وارتبط بأصوله ومدينته، ولم يفعل مثل من تناسوا قراهم أو مدنهم ومرجعياتهم المحلية، ليغرقوا في عوالم وطنية أو دولية.
كبرياء وأنفة المغربي
بدوره، قال الكاتب الصحافي اللبناني خير الله خير الله، إن بن عيسى، كان كتلة من النشاط، في كلّ عمل مارسه، وفي كلّ مهمّة أوكلت إليه، كما "كان السهل الممتنع"، و"رجالا عدة في رجل واحد"، كان "هاجسه في كلّ ما فعله، خدمة المغرب"، فيما "لازمه دائما، ذلك التواضع الذي لا يمتلكه غير الكبار الواثقون من نفسهم، والذين يتمتعون في الوقت ذاته، بكبرياء وأنفة المغربي، الذي يعرف تماما أهمّية بلده، ومؤسساته الراسخة، في مقدّمها مؤسسة العرش، وتاريخها القديم". وخلص خير الله إلى القول إن "خسارة محمّد بن عيسى لا تعوض".

ماضي الخميس الامين العام لملتقى الاعلام العربي في الكويت والكاتب الصحافي اللبناني خير الله خير الله
عرفان
تحدث مصطفى الخلفي، الباحث والوزير المغربي السابق، عن "العرفان لرجل كانت له بصمة استثنائية في تاريخ بلدنا"، مشددا على أنه "لا ينبغي علينا أن نبخس الناس أشياءهم".

مصطفى الخلفي الوزير السابق يتحدث في الندوة
وقال الخلفي إن الأمر يتعلق بوقائع عاشها، إما مباشرة أو لاحقا، تتعلق بالترويج للنموذج المغربي في عدد من التوجهات والاختيارات السياسية والمجتمعية.
وبالنسبة للخلفي، فإن "ما سنّه بن عيسى في موضوع العلاقة بين الإسلاميين والنسق السياسي، لم يكن سوى نتيجة لرؤية أشمل، تضعهم ضمن دينامية النسق الثقافي وتحولاته، محكومة بوجوب الإيمان بالتعددية والتنوع، واعتبارهما شرطاً للتقدم والتطور".
قامة كبيرة
تحدث ماضي الخميس، الأمين العام للملتقى الإعلامي العربي في الكويت، عن بن عيسى، وقال إنه "كان كريما معه في كل شيء، صريحاً، عميقاً، ومؤمناً بأن لا نهضة من دون حرية، ولا تقدم من دون فكر مستنير".
وشدد الخميس على أن بن عيسى "المُعلم والمُلهم"، كان "رجلاً سابقاً لعصره، عاش من أجل المبادئ، وترك أثراً لا يُمحى في قلوبنا وعقولنا". وأضاف: "خسرنا برحيله قامة كبيرة، ولكن إرثه سيبقى حياً بيننا، نبراساً نهتدي به، ودافعاً لمواصلة المسيرة".
القلب الكبير
في الجلسة الرابعة، وجه جمال فخرو، النائب الأول لرئيس مجلس الشورى في مملكة البحرين، رسالة لبن عيسى - "الإنسان ذو القلب الكبير، ناصع البياض، الحنون، العطوف، الكريم، ذو الأيادي البيضاء، والمحب لأبناء مدينته أصيلة، وبلاده المغرب، وعالميه العربي والأفريقي والإنساني" - عنوانها "لا نتذكرك لأننا لا ننساك"، مما قال فيها: "كيف نتذكرك وأنت بيننا.

جمال فخرو النائب الاول لمجلس الشورى البحريني يتحدث في الندوة
لم تغب عنا لحظة. حتى جسدك الطاهر، لا يزال بيننا، نتلمسه ونصافحه ونعانقه، دون أي عناء. نشاهدك في كل خطوة نخطوها هنا في أصيلة، أو هناك في البحرين. دع جسدك جانباً وقل لنا، ماذا نفعل بهذا الإحساس الطاغي، بوجودك حولنا؟ لا يمكن لهذا الإحساس أن يغيب".
روح قيادية
استعرض سعيد بن سعيد العلوي، الروائي المغربي، جوانب من شخصية بن عيسى، الذي تختصر شخصيته في صفة القدرة، مجسدة في القيادة، والرئاسة، والزعامة، والاستطاعة والقدرة على التغيير.
وقدم العلوي ثلاثة مظاهر للروح القيادية التي ميزت بن عيسى، أولها الرؤية الواضحة والإصرار، ثم الإيمان بأن الثقافة ليست ترفا، إضافة إلى سؤال ماذا باستطاعة المجتمع المدني أن يقدمه.
عين قريرة
من جانبه، وجه أحمد المديني، الكاتب الروائي والناقد الأدبي المغربي،رسالة إلى بن عيسى، مما جاء فيها: "أكتب إليك سيدي، أعترف لك وأعتذر، أني لم أعرفك كما ينبغي لي مبكرًا، لكنها كما علمت اختياراتُنا وأقدارنُا، كانت أكبرَ منا، ركبنا جموحنا وكلٌّ يقول إنه سيصنع وحده اليوم والمصير".
وأضاف المديني: "حين التقينا في أواسط العمر أحسستُ كأن العمرَ في أوّله، وما ضاع تقدم أمامنا ربحناه، مع رجل، وهو سليل ماضٍ عريق، يؤمن أن الحاضر ورؤيةَ الغد بوضوحٍ ونجاعةٍ، سواءُ الطريق". ثم أضاف: "الحقيقة، اجتمعت عندك السُّبل، وحول جسدك الظليل، وعقلك، وصدرك الرحب الكبير، التقت عقولٌ، وقلوب، ونضجت أفكارٌ، وتأجّجت عواطفُ، اشتبكت، تحاورت، اختلفت ثم تعانقت في منعطف أصيلة، كانت عسيرةً البدايات، عصيّةَ المنال الرّغبات، وبهِمّةٍ ومثابرةٍ وصبرٍ صارت ذليلة، تفاحًا وكُمثرى قطفتَها، وأهديتها بسخاء إلى بلدتك وناسك".
وتحدث المديني عن وقع الفقد لديه، فقال: "رحلت لتنام بعين قريرة في ختام رسالتي الحالية إليك، لأني لن أنقطع عنك أبدًا، يصعب عليّ أن أتجرّد من عاطفتي نحوك، بالأحرى تجاه هذا الرحيل، ويا للمفارقة، غيابُك حدثٌ واقعي، وفي الوقت حضورُك كثيف. أشعر كأنك في سفر، ونحن نقول سيعود غدًا، أو بعد غد، نتوقع سيُطلّ من سيدي غيلان أو باب البحر. بحرُ أصيلة ذاتُه يشرئبُّ موجُه، ونوارسُه من علٍ، تحلق تزفُّ لنا مقدمك... ولو سألتني كم مرةً جئت في بالي، سأقول مرةً واحدة، فقط. لا تستغرب، لأنك أتيتَ ولم تغادرني".

احمد المديني وعبد الوهاب بدر خان وإدريس الكراوي
شفاف
توقف عبد الوهاب بدر خان، الكاتب الصحافي اللبناني، عند ما يميز بن عيسى، وإلى أي حد كان شفافا، الجميع يعرف كل جوانب شخصيته، من الدبلوماسي إلى المثقف إلى السياسي.
واستعاد بدر خان كيف كان ألم رحيل بن عيسى كبيرا وشديدا، غير أن العزاء يبقى في أننا اجتمعنا اليوم، حتى في غيابه من أجل أن نتذكره ونعترف بفضله على جيل نبل أجيال من المغرب والوطن العربي.
زرع فأكلنا
قدم ادريس الكراوي، والباحث الأكاديمي المغربي ورئيس الجامعة المفتوحة للداخلة، خلاصتين – درسين، يميزان تجربة وسيرة بن عيسى، يتمثل أولها في أن كل ما يفعله المرء في حياته له معنى، ومنفعة مجتمعية وتنموية وأثر على محيطه، ما يعني إن ما نقوم به لا يذهب هباء منثورا، بل يبقى حيا وخالدا في ذاكرتنا، وهذا ما تخبرنا به سيرة بن عيسى، التي تذكرنا في القول المأثور الذي يتحدث عن زرعوا فأكنا ونزرع فيأكلون؛ وهو ما يعني أن بن عيسى زرع مشروعا لنا وللأجيال القادمة. أما ثاني الخلاصتين، يضيف الكراوي، فيتلخص في أن الفقيد رجل بصم تاريخ بلاده وذاكرة مدينته، وأعطى أجمل ما عنده لوطنه الذي لن ينساه.
العزاء الكبير
وفي ختام الندوة، قال حاتم البطيوي، أمين عام مؤسسة منتدى أصيلة، إن ما قاله المشاركون في ندوة تكريم الراحل بن عيسى، الذي "كان عزيزا علينا جميعا"، كان "عزاءا كبيرا بالنسبة لنا، وبارقة أمل ودفعة قوية وطاقة إيجابية نحو كسب مزيد من الثقة لنمضي قدما من أجل أن يظل موسمنا، كما كان دائما، في الأعالي". وأضاف: "هناك دائما أمل في أن يكون الحضور كبيرا ومتنوعا ومن كل القارات وأنحاء المعمور".
وخاطب البطيوي المشاركين: "مرحبا بكم دائما في أصيلة، وجودكم يسعدنا. أنتم أهل الدار. أنتم منا ونحن منكم". ثم أضاف: "صحيح أن السي بن عيسى رحل عن دنيانا الفانية، لكن لدي إحساس دائم أنه جالس هناك، وسط القاعة، ينصت إلينا ويدفعنا إلى المثابرة من أجل إنجاح هذا الموسم، ونحن مثل خلية نحل نتحرك حوله. هو صحيح رحل، لكن روحه دائما ترفرف فوق سمائنا".
إثر ذلك، توجه المشاركون إلى الزاوية العيساوية، حيث مرقد فقيد أصيلة والدبلوماسية والثقافة المغربية والعربية؛ وتليت الفاتحة على روحه الطاهرة.
وتميزت الندوة ببرمجة ست جلسات، فضلا عن الجلسة الختامية، قدمت خلالها، على مدى ثلاثة أيام، شهادات اشتركت في إبراز جوانب متنوعة من شخصية بن عيسى، الدبلوماسي، والوزير، ورجل الدولة، والصديق، والمثقف والإنسان؛ بينما ترددت كثيرا صفات "المعلّم الملهم"، و"الرائد الفذ"، و"الوزير المقتدر" و"الفقيد العزيز"، على لسان نخبة من الشخصيات الفكرية والسياسية من المغرب، ومناطق متفرقة من العالم العربي وإفريقيا، بقدر ما أـظهرت وأكدت وفاءها لبن عيسى، أجمعت واجتمعت على احترام وتقدير تجربة رجل توحدت حوله مشاعر الفقد.
وسيرا على تقليد سنته منذ إطلاق "خيمة الإبداع"، اًصدرت "مؤسسة منتدى أصيلة" كتابا جمع شهادات المشاركين في ندوة تكريم بن عيسى.
وكتب عبد الإله التهاني، الكاتب والإعلامي، المدير السابق للاتصال والعلاقات العامة بوزارة الاتصال المغربية، والمشرف على هذا اللقاء التكريمي أن بن عيسى، أقام قيد حياته، خيمات عدة لتكريم مبدعين ومفكرين، تقديرا لعطاءاتهم، وها هي "خيمة الإبداع" التي أسسها، واختار لها أن تكون من أيقونات موسم أصيلة، ترد للراحل "تحية الوفاء والبرور"، و"تحتفي بشخصيته الفذة في أبعادها الثقافية والديبلوماسية والإنسانية"، و"تستعيد بكل امتنان وعرفان، ما قدمه لمدينته من عطاء وفير، في ساحة العمل الاجتماعي والمدني والإحساني".
وجاء كتاب "خيمة الإبداع" لهذه السنة، في طبعة أنيقة، من 399 صفحة، متضمنا 78 شهادة، تحت عنوان "شهادات وذكريات / محمد بن عيسى ... رجل الدولة وأيقونة الثقافة".