: آخر تحديث
تحويل المأساة الفردية إلى علامة جماعية

قراءة في ليالٍ حبلى بالأرقام

2
2
2

تمثل قصة ليالٍ حبلى بالأرقام للقاص حسين رشيد، نموذجاً مكثفاً للسرد الواقعي الذي يتخذ من تجربة السجن والإعدام الجماعي، مرجعاً دلالياً يتجاوز الحدث المباشر إلى فضاء رمزي أوسع. النص يعرض مصائر ثلاثة سجناء –كاظم، محمود، محسن– محكومين بالإعدام، ويعيد بناء لحظة الموت بما تحمله من شحنات رمزية، حيث تتحول الأرقام والوجوه والأعين إلى شواهد دلالية مفتوحة. إن هذا النص، بقدر ما هو شهادة على العنف السياسي في حقبة عراقية مظلمة، هو أيضاً نص إبداعي متخم بالرموز التي تستدعي قراءة سيميائية تكشف طبقاته المتعددة. من هنا تأتي أهمية توظيف منهج رولان بارت السيميائي، الذي ينظر إلى النصوص بوصفها أنساقاً من العلامات، تتحرك في مستويات مختلفة: من المستوى الدلالي، إلى المستوى الإيحائي، وصولاً إلى البعد الأسطوري/الإيديولوجي.

ينطلق رولان بارت من تصور أن النص ليس مجرد حامل لمعنى واحد، بل هو فضاء تنتج فيه العلامات دلالات متراكبة عبر مستويات: المستوى الأول (الدلالة المباشرة): حيث تحيل العلامة إلى معناها المباشر (مثلاً: الرقم 532 يدل على تسلسل إداري). والمستوى الثاني (الإيحاء): حيث تكتسب العلامة دلالة ثقافية أو وجدانية إضافية (الرقم هنا يوحي بإلغاء الهوية الإنسانية وتحويل الفرد إلى مجرد رقم). والمستوى الثالث (الأسطورة/الميثولوجيا): حيث تتحول العلامة إلى خطاب إيديولوجي أو أسطوري يعكس بنية السلطة والمجتمع (تحويل السجين إلى رقم يكشف عن خطاب الدولة الشمولية التي تمحو الفردية). كما يولي بارت أهمية لثنائيات النص: الدال/المدلول، الكاتب/القارئ، الوظائف السردية، واللعب على كثافة العلامات البصرية واللغوية. النص، وفق بارت، ليس مجرد "حكاية"، بل هو "نسيج من العلامات" يجب تفكيكها. العنوان ذاته ليالٍ حبلى بالأرقام يفتح أفق القراءة: فالأرقام ليست مجرد عناصر حسابية، بل علامات وجودية. كل شخصية تعرف برقمها (532، 433، 323). على المستوى المباشر، الرقم يدل على هوية سجنية. لكن على المستوى الإيحائي، الرقم يعني محو الاسم والذات وتحويل الإنسان إلى كيان قابل للتصرف الإداري. أما على المستوى الأسطوري، فإن الأرقام تجسد خطاب السلطة الشمولية التي لا تعترف إلا بالتصنيف العددي، حيث يغدو الجسد مجرد وحدة قابلة للتصفية.
إذن، تتحول الأرقام إلى ميثولوجيا للسلطة؛ آلية "تشييء" الإنسان ونزع فردانيته.

من العلامات البصرية اللافتة في النص حضور العيون قبل الإعدام، حين يطلب السجناء الثلاثة رفع العصبة عن أعينهم.  هنا العين تتبدى علامة للمواجهة، للكرامة الأخيرة. بعد الموت تبقى الأعين مفتوحة، "كأنها كاميرا آلية". على المستوى المباشر، العين المفتوحة هي وضع جسدي. أما على المستوى الإيحائي فهي دلالة على استمرار الذاكرة والرقابة الرمزية. وعلى المستوى الأسطوري، تتحول العيون إلى لعنة أسطورية تطارد الجلادين، حيث لا يستطيعون إغلاقها، ولا أن يطفئوا حضور الضحايا. إذن، العيون تعمل كعلامة مضادة: إذا كانت السلطة سعت لمحو الهوية عبر الأرقام، فإن العيون تعيد تثبيت الذاكرة والهوية، وتؤكد أن الموت لا يلغي الأثر. الجثث تُرفع بأكياس سوداء، وتُلقى في المجهول. لكن النص لا يتوقف عند الفعل المادي، بل يبرز أن الجثث تعود بصورة أخرى؛ في ذاكرة الأهل، في كوابيس الجنود، وفي العقاب اللاحق للجلادين. وفق بارت، هذا المستوى يمثل إعادة إنتاج الأسطورة: الجثة ليست مجرد جسد، بل علامة على ظلم تاريخي، تتحول إلى رمز للمقاومة الأخلاقية. فالجندي الذي يفقد عقله، والآخر الذي ينتحر، والضابط الذي يموت حريقاً… كلهم ضحايا "الميثولوجيا العكسية" التي أعادت للضحايا سلطة رمزية.

العائلة كفضاء دلالي

في القصة، ترد صور العائلة باستمرار: توأم محمود، والدا كاظم، جدة محسن. هذه العلامات العائلية تعمّق المأساة: فهي تقابل "الأرقام" بذاكرة حية. على المستوى المباشر، العائلة تعني روابط دم. على المستوى الإيحائي، هي رمز للحياة المهددة، وللاستمرار المقموع. أما على المستوى الأسطوري، فإن العائلة تتحول إلى أسطورة الوطن المسلوب: إذ يتماهى غياب السجين مع غياب الأمة، ويتحول الحرمان من الجثمان إلى رمز لحرمان الوطن من الحرية. السرد يشتغل على تقابل واضح: السجناء مقابل الضباط والجنود. غير أن النص يفكك هذه الثنائية؛ فالجنود أنفسهم يتحولون إلى ضحايا لاحقاً، مطاردين من "صور الضحايا". هنا يطبق بارت فكرة أن العلامة ليست ثابتة، بل "شبكة انزلاقات". فالجلاد نفسه يغدو ضحية لصور الضحايا التي تسكن وعيه. إذن، النص يبني دلالة مزدوجة: الجلاد ضحية عنفه الخاص. ساحة الإعدام، الثلاجة، الأكياس السوداء… كلها فضاءات مشبعة بالدلالات. على المستوى المباشر، هي أماكن إجرائية لقتل السجناء. لكن على المستوى الإيحائي، تتحول إلى رموز للعنف السياسي والوحشة الوجودية. وعلى المستوى الأسطوري، تصبح هذه الأمكنة علامات لـ"أسطورة الدولة القاتلة"، حيث يتجسد الاستبداد بوصفه مؤسسة منتجة للموت.

وفق بارت، الأسطورة ليست مجرد قصة قديمة، بل خطاب إيديولوجي يتخفى وراء العلامات. في نص حسين رشيد، الأسطورة التي تكشفها السيميائية هي أسطورة السلطة الشمولية: سلطة تحول البشر إلى أرقام، وتجعل من الموت فعلاً إدارياً روتينياً. لكن النص يعيد قلب هذه الأسطورة: فالأعين المفتوحة، والأهل الحالمون، والجنود المنهارون، كلها علامات على أن السلطة لا تملك السيطرة المطلقة على المعنى. المعنى ينفلت ليؤسس أسطورة المقاومة والذاكرة. من خلال مقاربة سيميائية، تكشف قصة ليالٍ حبلى بالأرقام عن عمقها الرمزي والإيديولوجي. الأرقام، العيون، الجثث، العائلة، والفضاءات القاتلة كلها علامات تتحرك في مستويات متعددة؛ من الدلالة المباشرة إلى الإيحاء، ومنه إلى الأسطورة. في النهاية، النص ليس مجرد سرد لإعدام ثلاثة سجناء، بل بناء دلالي يفضح خطاب السلطة ويؤسس لخطاب مضاد قوامه الذاكرة والكرامة. بهذا، يتجلى مشروع حسين رشيد في هذه القصة: تحويل المأساة الفردية إلى علامة جماعية، والحدث العابر إلى أسطورة إنسانية. أما سيميائية رولان بارت فتمنحنا الأدوات لفهم كيف يتحول النص إلى فضاء للعلامات، وكيف تصير الأرقام حبلى لا بالعدّ فقط، بل بالدلالات التي تفضح بنية الاستبداد وتعيد الاعتبار للإنسان.
 


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في ثقافات