الشاعر السعودي محمد صلاح الحربي كتب نصه "محتاج لحظة سلام" بلهجة عامية سعودية شفافة، مائلة إلى الفصحى، تكشف عن شاعر متمكن من أدواته، إذ أنه يكتب أيضًا بالفصحى، ويزاوج بين لغتين: لغة التراث والبيان الكلاسيكي، ولغة الحياة اليومية الحية. في هذه القصيدة، تمنح اللهجة المشهد صدقه المباشر، بينما تظل الفصحى كالظل الذي يرفرف بين الصور والمجازات، مضيفة بعدًا شعوريًا ورمزيًا دقيقًا.
القصيدة تقوم على رحلة مزدوجة: رحلة خارجية تمتد من الضيق والفندق، مرورًا بالشارع المزدحم بالناس وأغانيهم وكلماتهم المبعثرة، إلى التاكسي، وصولًا إلى البحر؛ ورحلة داخلية تتجسد في تململ القلب واحتياجه للبكاء، وفي صعود الرغبة في استعادة التوازن الروحي والسكينة. الحركة الخارجية للنص تعمل كإيقاع سردي متصاعد، بينما الحركة الداخلية تمنح النص صدى وجدانيًا مستمرًا، يلتقط ضجيج الحياة ويحوّله إلى همس رمزي.
الصور الشعرية في النص غنية ودالة، وتفتح الأفق لتأويلات متعددة:
"ثلثينه أشياء مثل حزني.. وثلثه ظلام": تعكس توزيع الحياة بين الألم والفراغ، وتجعل الشارع امتدادًا لحزن الشاعر، صورة عميقة تجمع بين الوجود والذات.
"حديث الغمام": استعارة للحوار مع الطبيعة بدلًا من البشر، إذ يتحول الغمام إلى صديق وملاذ، ليصبح وسيطًا روحيًا يعكس الحنين للسلام والهدوء.
"الياس زلة قدم": حكمة شعبية تأتي ضمن سياق شعري متأمل، تضيف بعدًا وجدانيًا متفكرًا وسط اضطراب المشهد الخارجي.
من الناحية الإيقاعية والموسيقية، تعتمد القصيدة على تفعيلات قريبة من البحر الطويل، لكنها غير ملتزمة بوزن صارم، ما يمنح حرية للتعبير والتصعيد الشعوري. التكرار الداخلي في كلمات مثل "شبه الكلام"، "الظلام"، و"سلام" يخلق ترنيمًا داخليًا يربط بين المشاهد، بينما الحوار مع سائق التاكسي يكسر الرتابة ويضفي بعدًا سرديًا حيًا، يقسم النص إلى نبضات متحركة تعكس حركة القلب والذات. الإيقاع والتكرار يدعمان البعد الرمزي للصور، فيحول البحر إلى خلاص، والشارع إلى امتداد للحزن، والغرفة إلى مساحة ضيق نفسي، فتتحول القراءة إلى تجربة موسيقية وصوتية ورمزية في الوقت ذاته.
الكتابة باللهجات ليست ممارسة محلية فقط، بل هي تقليد عالمي يمتد من دانتي الإيطالي الشعبي إلى بودلير الفرنسي اليومي، حيث تحولت اللهجات إلى أداة لإضفاء القرب من الحياة، وللتعبير عن هموم الناس اليومية والوجودية. في العالم العربي، يمكن ملاحظة هذا التوازن عند شعراء مثل حسين القحطاني باللهجة السعودية النبطيّة، وبيرم التونسي باللهجة المصرية الصاخبة الساخرة، وكريم العراقي باللهجة العراقية الواقعية المفعمة بالصور اليومية، والبعد الرمزي والوجداني. كل شاعر يستثمر لهجته لتجسيد التجربة الإنسانية بما فيها من فرح وحزن وسخرية وتأمل، مع الحفاظ على بعد وجداني ورمزي.
عند قراءة "محتاج لحظة سلام"، يصبح واضحًا أن كل صورة، وكل تكرار لفظي، وكل توقف إيقاعي، يعمل كآلة موسيقية صغيرة داخل النص، تصنع تناغمًا داخليًا بين الصوت والمعنى، بين الرمزية والوجدانية، بين الواقع والحلم. البحر يمثل الصفاء والخلاص، الشارع يمثل الاضطراب الداخلي، والفندق والغرف الضيقة تمثل قيود الذات، بينما الحوار مع الناس أو التاكسي يعكس محاولة التفاعل مع العالم الخارجي. هكذا تتحول القراءة إلى رحلة بين الداخل والخارج، بين الذات والعالم، بين الحزن والسلام، تجربة شعرية موسيقية ورمزية متكاملة.
النص الكامل للقصيدة "محتاج لحظة سلام":
اطلع من الضيق.. والفندق.. ولقطة ندم
والناس.. عـجـَّة أغانيهم.. وشبه الكلام
للشارع الواسع.. اللي ممتلي من عدم
ثلثينه اشياء مثل حزني.. وثلثه ظلام
وتململ القلب.. واحتاج البكا.. وأحتدم
وانا ادري انه تهـيـَّا للشـجن والهيام
لو سايق التاكسي.. اللي شوي وإلا صدم
روحي.. قبل لا ترتب لك حديث الغمام
قال: انت مجنون؟ قلت: الياس زلة قدم
خذني لصوب البحر.. محتاج لحظة سلام
وما قلت ليتك تشوف الحلم، كيف انهدم
لوَّذت حزني.. وجاريته بشبه الكلام