هل هناك تصوّر فلسطينيّ، أو عربيّ، لإسرائيل وعنها يمكن الاهتداء به في المستقبل؟ وهل يستطيع تصوّر كهذا أن يواكب الجهود الديبلوماسيّة التي تُبذل راهناً؟
هناك، خصوصاً في لبنان، نظريّتان طاغيتان تتمحور أولاهما حول إسرائيل بوصفها «العدوّ»، وثانيتهما تشدّد عليها بوصفها «الرجاء».
ونظريّة «العدوّ» تجد اليوم تسويغها في الحرب الإباديّة التي شُنّت على غزّة، وفي المشاعر الحادّة التي أثارتها، إلاّ أنّها ابنة عقود كثيرة سابقة على الإبادة.
بيد أنّ نظريّة «العدوّ» تعاني مشكلات عديدة أخرى: فهي مطلقة فيما السياسة والعلاقات التي تنبثق منها نسبيّة ومتحوّلة. وهي، بالتالي، لا تقترح شيئاً للمستقبل ما خلا الاقتراحات التي قُدّمت من قبل ولم يتأدّ عنها سوى الهزائم والنكبات. وهي إذ «تعد» مجدّداً بـ «القتال»، فإنّ «وعدها» يصطدم بتوازن قوى عسكريّ ومجتمعيّ يحول دون تحقيق هذا الوعد اليوم وفي المستقبل المنظور. وهذا فضلاً عن أنّ الامتلاء بفكرة العداوة يسمّم نفْس صاحبه ويرشّحه لأمراض لا شفاء منها، كما يسهّل على كلّ راغب في انتهاز «فرصة» مكافحة «العدوّ» أن ينتهز الفرصة كذباً على شعبه من جهة وسطوةً وتجبّراً حياله من جهة أخرى. وهذا بعض ما يقوله تاريخ يمتدّ على قرن ومآسٍ لا يُحصى عددها.
إلى ذلك، فالنظريّة التي تتمحور حول إسرائيل بوصفها «عدوّاً» تساهم في سدّ طريق مجتمعاتنا إلى الكثير ممّا تحتاجه في هذا العالم، وهو لا يقتصر على الاقتصاديّ والتنمويّ، خصوصاً «إعادة الإعمار» التي تستدعيها بإلحاح غزّة وسوريّا ولبنان.
فالأجدى، بالتالي، الإقلاع عن تلك النظريّة التي تزيّف واقعاً قائماً تحلّ إسرائيل بموجبه في جوارنا، وليس ثمّة من يملك ترف إنكار الواقع والتعامل معه كأنّه مزعوم، أو كأنّه مطروح على المحو والإلغاء، بينما لا يصحّ وصف كهذا كما يصحّ في مجتمعات المشرق العربيّ ودوله. فكيف وأنّ الدولة العبريّة باتت مقيمة في دواخل مجتمعاتنا، إن لم نقل في أعماقها، وأنّ كثيرين ممّن حاصرهم تاريخ المظالم والتنازع الأهليّ، أو دفعَ بهم إلى الهامش، يرون فيها مصدراً لنجدة مادّيّة، أو في الحدّ الأدنى، معنويّة.
لكنّ النظريّة التي تتمحور حول إسرائيل بوصفها «الرجاء» لا تقلّ رغبويّة عن النظريّة الأولى، وإن بدا لوهلة أنّ المناخات الديبلوماسيّة، الدوليّة والإقليميّة، تهبّ لصالحها.
فتبشيرنا بالسلام والتطبيع معها «الآن الآن وليس غداً» هو، حتّى إشعار آخر، تبشير مُداوِر بغلبة داخليّة ورغبة في إفادة طرف أهليّ بعينه على سائر الأطراف. وحتّى لو وضعنا حرب الإبادة في غزّة جانباً، وآثرنا عدم اعتبارها عنصراً ضاغطاً على سياساتنا، يبقى أنّ نظريّة «إسرائيل الرجاء» محكومة بوعي سحريّ: فنحن نبدو مُطالَبين بالانتقال، وبغمضة عين، من العداوة إلى الحبّ، سائلين الناس، بمن فيهم ضحايا إسرائيل المباشرون، أن يتصرّفوا بموجب هذا الحبّ الذي يُدعون إليه.
وقد يرتئي البعض مُحقّاً عدم السماح لـ «القضيّة» بممارسة دور الفيتّو على السيادات الوطنيّة للبلدان المعنيّة، بل قد يرى آخرون أنّهم غير معنيّين، أخلاقيّاً أو سياسيّاً، بما حصل أو يحصل في غزّة. إلاّ أنّ إشاحة النظر عمّا يجري على جبهة العلاقات الفلسطينيّة – الإسرائيليّة ذات مردود سلبيّ على المصالح الوطنيّة نفسها، إذ تغفل عن ضرورة استئصال أسباب التوتّر في المنطقة، أو أقلّه ضبطها أو محاصرتها. والتوتّر هذا، وكما تعلّمنا التجارب الكثيرة، إنّما يدقّ جميع أبواب المنطقة ويدخلها من غير استئذان.
وها هو الرئيس اللبنانيّ جوزيف عون يخطو خطوة إلى الأمام، ونحو الواقع، بقوله إنّ التفاوض مع الإسرائيليّين أمر لا بدّ منه، لكنّ بذل الجهود لتوسيع دائرة الأصدقاء في المنطقة والعالم يحسّن نسبيّاً شروط تفاوض كهذا.
وإذا قيل إنّ الحرب الأخيرة تجاوزت خطط السلام السابقة عليها، وهذا صحيح، يبقى استلهام روحيّة تلك الخطط، مثله مثل كسب الصداقات، شرطاً شارطاً لعدم ظهور بلداننا بمظهر أطراف عارية تماماً في أيّ تفاوض محتمل.
وأغلب الظنّ أنّ سقوط نتنياهو وائتلافه الحكوميّ، إذا تحقّق، يدفع في اتّجاه كهذا: فهو، من جهة، يحدّ قليلاً من اختلال التوازن بين غالب ومغلوب، ومن جهة أخرى، يوجد مناخاً نفسيّاً أكثر صحّيّة يحيط بأيّة عمليّة تسوويّة.
وحسابات كهذه، بسائر تعقيداتها، لا تربطها صلة بـ «الرجاء» و«الحبّ» تماماً كما لا تربطها صلة بـ «العداوة»، وهي بالتالي لا تعلن انتقالاً مباغتاً من جحيم إلى نعيم. أمّا انشطار مجتمعاتنا، وطغيان المهاترة على «حواراتنا»، فهما ما يقف وراء هذا الاستقطاب بين «العداء» و«الرجاء»، وليس أيّ تحليل يؤرّقه البحث عن «الموقف الصائب». فإذا كان من أمل ضئيل في رأب بعض الصدوع داخل مجتمعاتنا فإنّ السير المتعقّل نحو الأهداف يوفّر فرصة أفضل لا تفوقها أهميّة إلاّ فرصة تسليم السلاح للدولة ومؤسّساتها.
وما من شكّ في الفائدة التي يوفّرها ظهور الصوت الفلسطينيّ الذي يستطيع إلهام شعبه ومساعدة جواره على بلورة توجّه عاقل وعقلانيّ. فهل يظهر صوت كهذا؟