: آخر تحديث

بين الكنيست وشرم الشيخ... رجلٌ متنازع عليه!

3
3
3

بالقياس مع المدن المصرية العملاقة، التي تكتظ بالناس ومعالم التاريخ، فإن مدينة شرم الشيخ الساحلية هي من المدن الصغرى التي تكتظ بالفنادق والمرافق السياحية على مختلف أنواعها.

ولقد حجزت المدينة لنفسها مكاناً بارزاً في التاريخ السياسي المعاصر، كونها استضافت عدداً كبيراً من المؤتمرات والفعاليات السياسية والاقتصادية، الإقليمية والدولية، ولكثرة ما استضافت فقد حازت تسمية «مدينة السلام»، وبوسع زائرها مشاهدة جدارية ضخمة على بابها، ضمَّت زعماء عالميِّين وعرباً وإسرائيليين، منهم الرئيس بيل كلينتون الذي لا يزال على قيد الحياة، أمّا باقي مَن تبقَّى من زعماء الصورة، فقد فارقوا الحياة، ومن ضمنهم الراحل ياسر عرفات، والمضيف محمد حسني مبارك.

في الثالث عشر من أكتوبر (تشرين الأول) 2025، استقبلت المدينة التي تستأنف إيقاعها القديم بوصفها مدينةً للسلام، واحدةً من أكبر القمم العربية والإقليمية والدولية، وكان «العريس» في هذا الاحتفال الضخم الرئيس الأميركي دونالد ترمب، الذي نسب لنفسه نجاح المرحلة الأولى من المسيرة التي من المفترض أن تُنهي الحرب على غزة، ووافقه العالم على ذلك من قبيل تشجيعه على المضي قدماً في العمل لعله يحرز سلاماً كان مستحيلاً في الشرق الأوسط، ذلك أن نجاح المرحلة الأولى من مبادرة إنهاء الحرب على غزة لا يكفي وحده للتتويج على منصة صنع السلام الأكيد والدائم في أخطر بقعةٍ منتِجة للحروب.

الرئيس ترمب، كما يقول المصريون، «باضت له في القفص» وهو قولٌ يُتداول بشأن المحظوظين الذين يحصلون على فوائد لم تكن في حساباتهم، فها هو وهو الرجل الذي يعاني ما يعاني في بلاده، ويخوض حروب حافة الهاوية مع عمالقة الاقتصاد في العالم، وتتعثر وعوده بشأن إنهاء الحرب في أوكرانيا، هذا الرجل حصل على تعويضٍ عن حرمانه من جائزة «نوبل للسلام» بـ«قلادة النيل» الثمينة، وهذه المرة لم يحصل عليها لما فعل، وإنما لما يُراهَن عليه أن يفعل.

قبل إقلاع طائرته العملاقة من مطار بن غوريون في رحلته القصيرة إلى شرم الشيخ، كان قد حصل على إجماعٍ قلّ نظيره في الكنيست وفي الشارع الإسرائيلي، بوصفه «ملك ملوك إسرائيل»، بهذا المعنى خاطبه رئيس الكنيست، ورئيس الحكومة، ورئيس المعارضة، ذلك بعد أن هتفت مئات الألوف بحياته بوصفه مخلّصاً للرهائن، ومنقذاً لدولة إسرائيل من التهديد الوجودي الذي أجمعوا على أنه انطلق من غزة!

حين وصل إلى شرم الشيخ وجد العالم كله في انتظاره، ولا أحد يعرف على وجه اليقين هل استوعب مغزى ما حدث معه في إسرائيل؟ وما لاقاه في شرم الشيخ؟

والفرق كبير في الحالتين حد التناقض... في إسرائيل حيث الكنيست يجسّد صورةً مصغرةً للدولة العبرية، وجد مَن يضع العصي في دواليبه كي يذهب إلى شرم الشيخ ممهوراً بختمٍ إسرائيلي، حيث جرى تذكيره بما قدَّم لإسرائيل في حربها وعلى حساب الآخرين، وقيل له إذ لولا سلاحه وتبنيه السياسي لما بقيت الدولة العبرية على قيد الحياة.

وأثناء وجوده الاحتفالي في الكنيست لم تُسمَع كلمةٌ إسرائيليةٌ واحدةٌ عن السلام ودوره في صنعه، وحين ردَّ على مَن سبقوه في الكلام لم يقل ما كان منتظراً منه أن يقول بشأن بدء مسيرة سلامٍ مع الفلسطينيين.

بين الكنيست وشرم الشيخ، بدا الرئيس ترمب رجلاً متنازعاً عليه، وهذه المرة ليس بين إسرائيل والعرب، بل بين إسرائيل والعالم كله... في الكنيست تمّ تطويقه بعبارات الثناء على دوره الحربي، بينما جرى العكس في شرم الشيخ، حيث أكبر محاولةٍ لشدّه إلى دورٍ سلميٍ تاريخي.

لم يكن مناسباً له، وقد رأى ما رأى من احتشادٍ في استقباله، إدارة ظهره للعالم كله، حاسماً أمره بالانحياز الكامل لإسرائيل الحربية، كما لم يكن قادراً على الاستجابة كما ينبغي لما يريده الحضور الوازن والواسع في شرم الشيخ، ولهذا لاذ باللغة، تاركاً الحكم النهائي على جدارته بقيادة مسيرة السلام المنشودة في الشرق الأوسط لأدائه المستقبلي.

العالم سيحكم على جدارته ليس فقط في إغلاق ملف غزة، على الحل الذي حدَّده في مبادرته، بل فيما يتصل بالجذر الأعمق للمسألة الشرق الأوسطية كلها، وهو القضية الفلسطينية، وتمكين شعبها والعالم من إقامة الدولة.

الاحتفال الذي جرى في الكنيست وشرم الشيخ، لا يكفي لاعتبار أن مسيرة السلام المنشود بدأت بالفعل، فقد بدأ قبلها وفي المكان ذاته أكثر من احتفالٍ، إمّا بانطلاقتها وإمّا بمنعها من الانهيار، ثم ما لبثنا أن رأينا ما رأينا من انهياراتٍ وتراجعات، فلنراقب ما الذي سيجري بعد الاحتفال، لعلنا نرى جديداً.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد