إيلاف من دبي: توفي هنري كيسنجر الليلة الماضية عن عمر يناهز المئة، مخلفًا وراءه إرثًا دبلوماسيًا مميزًا، تصفه "إيكونوميست" البريطانية بأنه كافح كل حياته ساعيًا ليحظى بقبول أوساط كان يتطلع دائمًا للانتماء إليها.
وكيسنجر يهودي ولد في ألمانيا قبل الحرب العالمية الثانية، وتعرض للتمييز منذ صغره. فُصل والده من وظيفته في إحدى المدارس الثانوية بسبب اضطهاد النازيين، ففرت العائلة إلى أميركا في عام 1938. وعلى الرغم من ذكائه وبراعته، لم يتخلص كيسنجر من لهجته الألمانية، "وهذا أضفى على شخصيته وقارًا وجدية"، كما تقول "إيكونوميست"، بينما اندمج شقيقه الأصغر والتر في المجتمع الأميركي، بحيث لا يمكن تمييزه من الأميركيين.
قنوات خلفية
تجلت قوة كيسنجر الفكرية في إنجازاته الأكاديمية، وكانت رسالته الجامعية في جامعة هارفارد موسعة إلى درجة أنها أدت إلى إقرار "قاعدة كيسنجر"، التي تحدد طول الرسائل الجامعية في المستقبل. ركزت دراساته لنيل درجة الدكتوراه على الاستراتيجيات الدبلوماسية التي حافظت على الاستقرار في أوروبا بعد هزيمة نابليون بونابرت، ما أتاح له رؤى قيمة ستشكل لاحقًا نهجه في العلاقات الدولية.
كان كيسنجر شخصية رئيسية في إدارة الرئيس الأميركي الراحل ريتشارد نيكسون، وقد عرف عنه تجاوزه القنوات التقليدية لوزارة الخارجية والخدمة الدبلوماسية، "وفضل العمل من خلال قنوات خلفية، والمشاركة في مفاوضات سرية مع دول مختلفة، بما فيها روسيا والصين. ولعب الخداع أيضًا دورًا في تكتيكاته، حيث ضلل فريقه والآخرين لتحقيق أهدافه، كما وصفه السياسي الإسرائيلي الراحل شمعون بيريز بأنه ’أكثر الرجال غدرًا الذين قابلتهم في حياتي‘"، كما جاء في "إيكونوميست" البريطانية.
على الرغم من الانتقادات والجدل، بقي كيسنجر واثقًا من قدراته ومقتنعًا بمبادئه وبطريقته في العمل الدبلوماسي، فتحمل النقد اللاذع، واحتفظ بمساعدين مخلصين يقدرون ذكاءه الفطري واستعداده للإصغاء للآخرين. تضيف "إيكونوميست" في ما يشبه البيان التأبيني للراحل: "كانت إعادة توجيه السياسة الخارجية الأميركية بعد حرب فيتنام واحدة من أصعب التحديات التي واجهها. فقد سعى إلى الاستفادة من التوتر بين الاتحاد السوفياتي والصين، فجعل من الولايات المتحدة لاعبًا رئيسًا في لعبة توازن القوى، كما أدى دورًا حاسمًا في الشرق الأوسط، حيث عمل على استبدال النفوذ السوفياتي بالنفوذ الأميركي".
جرائم حرب!
إلا أن منقديه اتهمهوه بالتضحية بالمبادئ الأميركية والتسبب في فقدان عدد لا يحصى من الأرواح: في حرب فيتنام، والصراع الكمبودي، وفي دعمه باكستان خلال حملة إبادة البنغال. كما اتهم أيضًا بالمشاركة في عمليات سرية في بلدان عدة، مثل تشيلي وأنغولا، حتى اقترح الصحفي البريطاني كريستوفر هيتشنز أن يحاكم كيسنجر بتهمة "ارتكاب جرائم حرب".
لكن، تستدرك "إيكونوميست" قائلةً: "وجد كيسنجر دعمًا وإعجابًا من جهات عدة. احتفت وسائل الإعلام ومقدمو البرامج التلفزيونية به باعتباره وكيل نيكسون السري و وزير الخارجية الفائق القوة. يعتبر نفسه رمزًا للقوة والتأثير، وكان يُصوَّر في كثير من الأحيان بجانب نساء جميلات. وفي حين شكك بعضهم في أخلاقيته، فإن بعضًا آخر لم يفهم هدفه الرئيسي: منع حدوث حرب عالمية مدمرة أخرى كالتي عاشها في ألمانيا".
بعد مغادرته الشأن العام، تمكن كيسنجر من تحقيق ثروة طائلة ومكانة رفيعة، وصار شخصية ذات تأثير ومتكلمًا مفوهًا. في سنواته الأخيرة، رأى نفسه حارسًا للحضارة الإنسانية، "مع ذلك، وعلى الرغم من إنجازاته، لم يستعد كيسنجر المستوى نفسه من النفوذ والانتماء الذي كان يتطلع إليه في محراب القوة الأميركية"، كما تؤكد "إيكونوميست"، خاتمةً بالقول: "كانت حياته حافلة بالنضال المستمر لترسيخ مكانته واكتساب الاحترام من الجميع. وفي حين اعترف الجميع بفكره الذكي وفطنته الاستراتيجية، فإن أفعاله المثيرة للجدل ردّت عليه انتقادات لاذعة، فلم ينل المكانة التي كان يصبو إليها دائمًا".
أعدت "إيلاف" هذا التقرير عن مجلة "إيكونوميست" البريطانية