: آخر تحديث

أقلامٌ للإيجار!

3
3
3

قبل ثورة المعلومات، وبعدها، وقبل عصر الذكاء الاصطناعي، كانت هناك «أقلام للإيجار».

منذ أن صار للكلمة ثمن وللشهرة سوق، وحيثما كان هناك مبدعون يعرضون -راغبين أو مكرَهين- بضاعتهم للبيع على قارعة الطريق؛ وُجدت «أقلام للإيجار»، حيث يمكن للعاجزين عن الإبداع أن يشتروا أقلاماً تكتب لهم، وعقولاً تُسخِّر إبداعها لمصلحتهم.

في ذهن كل واحدٍ منَّا كاتبٌ أو كاتبة، اشتهر أنها اشترت شهرتها الشعرية أو الروائية خصوصاً من أديب آخر. اليوم هؤلاء ليسوا بحاجة إلى المغامرة. يمكنهم أن يستلقوا على الأريكة ويكتبوا رواية مكتملة الأركان بلمسة زرٍّ على شاشة المحمول. الذكاء الاصطناعي سيوفر لهم سوقاً لتوليد الأفكار والقصص والحبكات وحتى الصياغات.

في سبتمبر (أيلول) 2024 أعلن الكاتب المصري الشاب محمد أحمد فؤاد إصدار أول رواية عربية كتبها بواسطة الذكاء الاصطناعي بعنوان «حيوات الكائن الأخير»، وقال في حوار مع «الأهرام»، (في 8 - 9 - 2024)، إن هذه الرواية نُفِّذتْ في 23 ساعة فقط، فقد استغرق تأليفها 12 ساعة، واستغرق التحرير والمراجعة 11 ساعة لا غير!

لكن ما زال هناك من يبيع في السوق القديمة!

قبل يومين نشر الصديق إبراهيم الهاشمي، المدير التنفيذي لـ«مؤسسة سلطان بن علي العويس الثقافية»، في جريدة «الخليج» الإماراتية، رسالة وصلت إليه من أحدهم عبر إحدى وسائل التواصل الاجتماعي عرّف نفسه بأنه يعمل «كاتب ظل متخصصاً في كتابة الروايات، والقصص القصيرة، والمسرحيات، ومقالات الرأي لحساب الغير»، ويعرض خدماته؛ إذ يستطيع «العمل على نص أدبي كامل انطلاقاً من فكرة يقدّمها العميل، أو تطوير عمل مكتوب مسبقاً وضبطه ليناسب البيئة الثقافية والاجتماعية التي يختارها الكاتب، وحدّد سعره بما يعادل 20 دولاراً لكل ألف كلمة مكتوبة».

وسائل التواصل أعطت زخماً هائلاً لعملية الكتابة والنشر وصناعة المحتوى، لأنها تمثل مجالاً واسعاً للتربح والشهرة، وبفضلها تكاثر المبدعون الجدد، وانتشرت كالفطر أعمالهم ورواياتهم الأدبية الغامضة، التي تملأ سوق الكتاب اليوم، وتشكل مزاج وذائقة القراء الجدد.

الاستعانة بالذكاء الاصطناعي لا تعني إلقاء الحمل على عاتق الآلة لكي تفكّر نيابةً عن الإنسان. هناك كتّاب اعترفوا أنهم استعانوا ببرامج الذكاء الاصطناعي للمساعدة في توليد نصوصهم، بينهم الروائية اليابانية ري كودان التي حصلت روايتها «برج الرحمة في طوكيو» على أرقى جائزة أدبية في اليابان، لكن اللافت في هذه الرواية أن الكاتبة اعترفت رسمياً بأنها استخدمت برنامج الذكاء الاصطناعي «ChatGPT» لكتابة نحو 5 في المائة من نص الرواية. وهي نسبة معقولة قياساً بأعمال كاملة جرت صياغتها بواسطة الذكاء الاصطناعي، فحتى منتصف فبراير (شباط) 2023، ظهر على متجر «أمازون»، «Kindle»، أكثر من 200 كتاب إلكتروني يحمل اسم «ChatGPT» كمؤلف أو مشارك في التأليف.

المثير في الأمر أن تقنيات الذكاء الاصطناعي تتطور أسرع مما نظن، ويمكنها فعلياً أن ترث الإنسان.

في أكتوبر (تشرين الأول) 2024 حضرتُ ندوة في الحيّ الثقافي القطري «كتارا» عن «الرواية في عصر الذكاء الاصطناعي»، تحدث خلالها الروائي واسيني الأعرج قائلاً: «الذكاء الاصطناعي لا يمكنه حالياً الوصول إلى نفس العمق الذي يبلغه الكاتب فـي عمله الإبداعي؛ لأنه يفتقر إلى المخزون العاطفـي والتجربة الشخصية التي تميز الكتابة الأدبية. لكن فـي حال تمكُّن الذكاء الاصطناعي من استيعاب جميع الأعمال السابقة وفهم نفسية الكاتب، فقد يقترب من ذلك، وإن لم يكن بصورة حرفية».

وفي الندوة ذاتها، خفف الروائي السوداني أمير تاج السر من منسوب القلق قائلاً: «الذكاء الاصطناعي لن يكون بديلاً للكاتب لأسباب كثيرة. فالنص الذي يقدمه الذكاء الاصطناعي يكون نصاً معداً مسبقاً، وهو يعتمد على برمجة موجهة وتخزين كمية هائلة من المفردات، لكن هذه المفردات لا تعكس بالضرورة الأسلوب الإبداعي الذي يستخدمه الكاتب، فالكاتب دائماً يبتكر فـي استخدام اللغة، ويخلق ترتيبات لغوية مميزة، ويضيف تفاصيل ورؤى غير متوقعة، وهذا ما يفتقر إليه الذكاء الاصطناعي».

أما الروائي المصري إبراهيم عبد المجيد، فقال: «الذكاء الاصطناعي قد يفتح أفقاً جديداً بالفعل، لكنّ الإبداع الحقيقي هو نشاط روحاني يتجلى فـي الصدق الإنساني. الإبداع الأدبي يأتي من الروح، وهو مختلف تماماً عن الإنجازات التي تعتمد على الحسابات العقلية البحتة. الإبداع هو مزيج من الأحاسيس والتجارب الإنسانية والخيال، وهذه أمور يصعب على الذكاء الاصطناعي تحقيقها».

حسناً، ما دمنا في عصر روايات «الروبوت» هل يمكن أن يأتي يومٌ نحضر فيه أمسية شعرية أو أدبية يكون المتحدثون فيها «روبوتات» توظِّف الذكاء الاصطناعي في إلقاء نصوص أدبية، وتقديم قراءات نقدية بشأنها؟ وإذا كان الأمرُ كذلك؛ فلماذا نتجشم عناء الحضور، حيث يمكننا أن نتابع تلك الأمسية الافتراضية عبر شاشات البث المحمولة؟ ماذا سيبقى حينئذٍ للإبداع البشري؟!


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد