د. باسمة يونس
يجب ألا تعني حاجتنا لنقادٍ، استسهالَ دخول عالمه، وصحيح أن الساحة الأدبية تتسع للمزيد دائماُ، لكنّ هذا لا يعني السماح لأي كان بحمل قلم النقد في غياب القدرة عليه.إن الناقد الحقيقي هو من يملك نار السؤال، وليس رماد الادّعاء، فالرأي ليس نقداً واستعراض النص ليس تحليلاً؛ لأن النقد الأدبي أعقد من ذلك بكثير وفي جوهره هو فعلُ وعيٍ لا ردّ فعل ومرآة العقل أمام النص، لا مرآة الأهواء، يتطلّب ذائقة تعلي من مرتبة الفهم والتأويل والربط والسبر وتأخذ الكاتب من ظاهر القول إلى باطنه، ومن لغته إلى ثقافته وأسلوبه. فكيف يُختصر النقد اليوم في تغريدة مستعجلة، أو في منشور يعجّ بالانفعالات، لا فيه عمق قراءة ولا حتى أدوات تمييز؟!إن حاجتنا إلى النقاد، نعم، عظيمة؛ لأن الكاتب مهما بلغ من نُضج، لا يرى نفسه كاملة في مرآته، بل يحتاج إلى من يقرؤه بغير عين التابع، وبغير نفس المنافس، وبحاجة إلى من يعيد ترتيب العلاقة بين النصِّ والواقع، بين القارئ والمعنى، بين الغموض والتأويل، بين الجمالية والمعيار، لكن حاجتنا هذه لا تبرر مطلقاً فتح باب النقد لكل من قرأ كتاباً أو حفظ مصطلحاً، أو كتب سطراً يعجب فيه بنفسه أكثر مما يعجب بالنص.ليست كل كتابة نقداً، ولا كل كاتب ناقداً، وبعض ما يُكتب اليوم باسم النقد ليس أكثر من بوحٍ ذاتي، أو تصفية حسابات، أو تعبير عن ذوق شخصي يُرفَع إلى مرتبة التقييم وليس نقداً، بل الأحرى اختطاف للكلمة النقدية من سياقها المعرفي؛ لأن النقد لا يُولَد من العدم، بل من معرفة مركبة من الأدب والفكر والتاريخ والفلسفة والمدارس النقدية، والتحولات الجمالية الكبرى. ولا بد أن يكون الناقد قد جرّب الصمت الطويل أمام النصوص، وارتبك أمام الشعر، واهتز أمام اللغة، وتساءل كثيراً قبل أن يكتب.إننا نعيش اليوم في بحر من النشر، وحين تتساوى القراءة الفاحصة بقراءة التسلية، ويصبح كل من قرأ كتاباً ناقداً، فإننا نُفرّط في المعنى، ونُضيّع الحدود بين التلقي والتأويل وبين الانفعال والتحليل؛ فيصبح النقد مجرد تعليق على النص، لا مجادلة مع النص. ومتى ما أصبح الناقد مادحاً أو مشاكساً بلا دليل، خسرنا جوهر النقد كتربية جمالية وفكرية.لذلك، ليس كلُّ من كتبَ عن كتابٍ ناقداً أو ناقدةً، وليس كلُّ رأيٍّ نقداً، فالنقد الحقيقي هو الذي يحمل النص إلى مناطق لم يدركها الكاتب نفسه، ومهنة يَكبر فيها القارئ على نفسه.نعم، نحتاج إلى النقاد، لكننا لا نحتاج إلى كل من ادّعى أنه ناقد، ونحتاج إلى من يفكّك النص ليُعيد بناءه فهو في نهاية المطاف، ليس زينةً تُضاف للنص، بل التجلي الأعمق لروحه، والكلمة، حين تفقد تقديرها تفقد قدرتها على التغيير، والنقد، حين لا يكون عميقاً، يصير ضجيجاً يعوقنا عن فهم الأدب، لا سبيلاً إليه.