في مطلع القرن التاسع عشر، ونتيجة الصراع على حكم مصر بين العثمانيين والمماليك إثر فشل الحملة الفرنسية وانسحاب الإنجليز وقتها من مصر، أصبحت السلطة قاب قوسين أو أدنى من أيدي القوى الوطنية المصرية. وبدلاً من اغتنام الفرصة وعودة حُكم مصر للمصريين اتفق الأعيان بقيادة الزعيم الوطني عمر مكرم نقيب الأشراف على تولية القائد العسكري الألباني الأصل محمد علي حكم مصر.بقية التاريخ معروف، بغض النظر عن مدى دقته لأن رواياته حسب موقف وتوجّه من يكتبونه، وظلت الأسرة العلوية تحكم مصر حتى منتصف القرن العشرين. وتأرجحت دولة الحكم الأجنبي تلك، رغم مقولة إن محمد علي هو من «بنى مصر الحديثة» ما بين موالاة العثمانيين ثم تحت الاحتلال البريطاني حتى نهايتها على يد ضباط مصريين.لكن حتى بعد ذلك، لم تنته «عقدة الخواجة» والتطلع لوجود حكم أجنبي حتى في مباريات كرة القدم. ويسخر التراث الشعبي للمصريين من ذلك بفكاهتهم المرة بأن المصريين من أيام حكم الفرعون يميلون للتندر على الحكم. يخضعون له تماماً لكنهم فيما بينهم وبين أنفسهم يكيلون له اللوم ويطلقون عليه من النكات والسخرية ما لا يريدون ألا يطلق عليهم – لذا يختارون أجنبياً ليلقون عليه بالمسؤولية ويصفونه بكل ما هو سلبي في نوادرهم ونكاتهم.هذا طبعاً تبسيط مخلّ إلى حد السخافة قد يكون مادة للتندّر والسخرية لكنه ليس صحيحاً إلى حد كبير. وإن كانت «عقدة الخواجة» ليست قاصرة على المصريين، ما زالت موجودة إلى يومنا هذا وتتبدّى في أمور أقل مرتبة من حكم البلاد وتحكيم مباراة كرة قدم.هل يمكن سحب عقدة الحكم الأجنبي (بفتح الحاء والكاف) على ما تشهده منطقتنا الآن؟ ربما إلى حد ما. فهذا ما تتجه إليه الأمور في سياق صراع ثلاث قوى، كلها من الحكام الأجانب، هم الفرس والترك والإسرائيليين على القيام بدور حاسم في الأمور الإقليمية.لم يكن وجود الحكم الأجنبي دوماً بالاختيار ورضا السكان الأصليين، أو الاستقدام بأجر كما في تحكيم الرياضة أو غيرها من الأمور. حتى تولية محمد على لم تكن تماماً بقيام القوى الوطنية تسليمه زمام الأمور في مصر، لأنه في النهاية منذ قدومه إليها ضمن كتائب عثمانية في صراع مع الفرنسيس لعب دوراً عسكرياً وسياسياً انتهازياً بهدف الوصول إلى السلطة. وما كان قرار عمر مكرم ورفاقه سوى تحصيل حاصل لواقع تفرضه القوة الحقيقية.على مدى العقود الأخيرة لم يتوقف الصراع بين القوى الإقليمية الثلاث في منطقتنا، وكما كان في القرون السابقة تجد كل منها داعماً ومسانداً من القوى الكبرى في العالم. وتظل دولة الاحتلال في فلسطين الحائز الأكبر دعم القوى الأهم، من أمريكا والغرب إلى قوى طرفية أخرى. ورغم محاولات الترك والفرس تكوين تحالفات أوسع إلا أن الدعم من القوة العظمى للطرف الثالث في الصراع للهيمنة على الإقليم يتجاوز تحالفاتهم بمراحل.يشترك الثلاثة في استخدامهم الدين واستغلالهم له كأرضية مفتعلة للنفوذ والهيمنة، وإن اختلفت طرق الاستخدام والاستغلال، وإن كان الفرس والترك يعتمدون على تراث ممتد تاريخياً، فإن الطرف الثالث يسعى لترسيخ تصور تاريخي مدعوم من القوى الكبرى التي تستغل أيضاً بعض المقولات الدينية لتبرير دعمها المطلق لإسرائيل.مع شبه فشل بناء دولة ما بعد الاستقلال في أغلب بلدان المنطقة بعد الحرب العالمية الثانية وانهيار الامبراطوريات الاستعمارية التقليدية، أصبح صراع الحكام الأجانب للاستحواذ على كل مباريات المنطقة محكوماً بمعايير تتجاوز الصراع التقليدي بين القومي والديني. أضف إلى ذلك، أن تكوين دولة الاحتلال يتشابه بشدة مع القوى المتحكمة في العالم الآن. فهي عبارة عن مجموعات من «المهاجرين» من مختلف بلدان العالم جاءت بهم الحركة الصهيونية إلى فلسطين قبل عقود قليلة فاستوطنوها. بالضبط كما حدث مع أمريكا الشمالية وأستراليا حين أتاها المهاجرون الأوروبيون قبل قرون قليلة ليرسخوا دولاً أصبحت الأقوى في العالم الآن.صحيح أن قوى «العالم الجديد» تمكنت من «تسوية» مشكلتها مع السكان الأصليين من الهنود الحمر والأبورجين بينما إسرائيل لم تحل مشكلتها مع الفلسطينيين، لكن ما يجري الآن هو محاولة ليس فقط للتوصل إلى «الحل النهائي» (ولو على الطريقة الأوروبية منتصف القرن الماضي – أي القضاء على مجموعات سكانية بالكامل أو تهجيرها تماماً) ولكن أيضاً بمحاولة «تكتيل» الأقليات في المنطقة. فليس تدخل إسرائيل لصالح الدروز أو الأكراد أو غيرهم من باب «الإنسانية» وإنما لغرض انتهازي واضح تماماً.دون انتظار للحصول على عقود للقيام بالتحكيم في سوريا ولبنان وغيرها، تسعى إسرائيل ولو بالقوة العسكرية لفرض نفسها حكماً في مباريات الصراعات الداخلية في دول المنطقة. وبالفعل تمكنت من طرد الحكام الأجانب من الفرس وتحاصر محاولة الحكام الأجانب الترك للفوز بأي تعاقدات إقليمية.ليست تلك رؤية «انهزامية» ولا من باب «التفسيرات التآمرية» ولكنها محاولة لقراءة الواقع بما هو عليه إذا كان لنا أن نحمي ما تبقى من مصالحنا ونتعامل مع حاضرنا بشكل سليم. كما أن تطلعنا للمستقبل يتطلب أيضاً ألا نغفل ما هو قائم ويحدث، سواء كنا فاعلين فيه أو مجرد متلقين لنتائجه بسلبية.
عقدة الحكم الأجنبي
مواضيع ذات صلة