طوى رحيل هنري كيسنجر، مستشار الأمن القومي والمسؤول البارز في السياسة الخارجية الأميركية، صفحة قرن عابق بأحداث مفصلية ومحطات تاريخية غيّرت وجه العالم ورسمت خرائط وتحالفات واتفاقات ومصالحات، وشهدت حروبًا ساخنة وباردة على مدى عقود.
هنري كيسنجر الذي شغل منصب وزير الخارجية في عهد رئيسين للولايات المتحدة كان مهندسًا لاتفاقيات سلام ومخططًا لحروب في آن معًا، وبقي حتى آخر أيامه بوعيه السياسي متابعًا ملمًا، يطلق النصائح موجّها للسياسة الأميركية.
ولقد استمر بنشاطه وزياراته الخارجية بعد عامه المئة، مختتمًا رحلاته في زيارة أخيرة الى العاصمة الصينية بكين.
الرئيس الصيني شي جين بينغ (يمين) يصافح وزير الخارجية الأميركي السابق هنري كيسنجر في قاعة الشعب الكبرى في بكين. 17 مارس(آذار) 2015.
عاش كيسنجر قرنًا كاملاً، ورحل أمس الأربعاء في منزله بولاية كونيتيكت.
وقالت مؤسسته الاستشارية في بيان إن كيسنجر الذي كان وزيرًا للخارجية في عهدي الرئيسين ريتشارد نيكسون وجيرالد فورد وأدّى دورًا دبلوماسيًا محوريًا خلال الحرب الباردة، توفي اليوم (الأربعاء).
ولم يحدّد البيان سبب الوفاة، فيما ستنظم عائلته مراسم دفن خاصة، على أن تقام مراسم تكريم عامة في وقتٍ لاحق في ولاية نيويورك.
رثاء
وكالة الصحافة الفرنسية وصفت الراحل بأنه عملاق الدبلوماسية الأميركية، فيما قالت رويترز أن كيسنجر الحائز على جائزة نوبل للسلام ترك بصمة لا تمحى على السياسة الخارجية الأميركية، خاصة لجهوده في ثلاثة مجالات هي إخراج أميركا من حرب فيتنام، وفتح العلاقات الدبلوماسية مع الصين، وتقليل التوترات مع الاتحاد السوفياتي.
مستشار الأمن القومي الأميركي هنري كيسنجر (إلى اليمين) يصافح دوك ثو، رئيس الوفد الفيتنامي الشمالي، بعد التوقيع على اتفاق وقف إطلاق النار في حرب فيتنام، في 23 يناير(كانون الثاني) في باريس.
جائزة نوبل
في عام 1973، تقاسم كيسنجر جائزة نوبل للسلام مع نظيره الفيتنامي الشمالي لو دوك ثو، تقديرًا لتوصلهما إلى اتفاق لإنهاء حرب فيتنام.
وقالت لجنة نوبل آنذاك إن الاتفاق، الذي تم التوقيع عليه يوم 27 يناير(كانون الثاني) 1973، "جلب موجة من الفرح والأمل بالسلام في العالم أجمع".
لكن هذا الخيار أثار جدلاً كبيرًا قي ذلك الوقت. فقد رفض دوك ثو الجائزة معتبرًا أن الهدنة التي تم التفاوض بشأنها لا تُحترَم، فيما لم يتوجّه كيسنجر إلى أوسلو خوفًا من التظاهرات المناهضة.
تأجيج الحروب
من جهةٍ أخرى، تقول صحيفة "إنترسبت" نقلاً عن كاتب سيرته غريغ غراندين، إن كيسنجر "ساهم في إطالة أمد حرب فيتنام وتوسيع هذا الصراع إلى كمبوديا المحايدة وتيمور الشرقية وبنغلاديش حيث وقعت عمليات الإبادة الجماعية.
وتشير الصحيفة أيضًا لدوره في تسارع الحروب الأهلية في الجنوب الأفريقي، ودعمه للانقلابات في أنحاء أميركا اللاتينية_ بحسب أرشيف حصري للوثائق العسكرية الأميركية والمقابلات التي أُجريت مع الناجين الكمبوديين والشهود الأميركيين.
وفي ذات السياق، يقول المدعي العام المخضرم في جرائم الحرب ريد برودي للصحيفة "قلة من الأشخاص كانت لهم يد في هذا القدر من الموت والدمار والمعاناة الإنسانية في العديد من الأماكن حول العالم مثل هنري كيسنجر".
وخلص التحقيق الذي أجراه موقع "إنترسبت" عام 2023 إلى أن كيسنجر الذي اعتُبِر أقوى مستشار للأمن القومي في التاريخ الأميركي، كان مهندس الحرب الأميركية في جنوبي شرقي آسيا ما بين عامي 1969 و1975.
كيسنجر السياسي الجمهوري الابرز في الخارجية الأميركية
نشأته
وُلد هاينز ألفرد كيسنجر في كنف عائلة يهودية عام 1923 في ألمانيا. وفرّ من النازية إلى الولايات المتحدة، فحصل على الجنسية الأميركية في سن العشرين.
وانضم لاحقًا إلى وحدة مكافحة التجسس في الجيش قبل أن يواصل دراسته في جامعة هارفرد.
واشتهر كيسنجر بنظارته السوداء السميكة وفرض نفسه نموذجًا في العمل الدبلوماسي الدولي عندما عيّنه الرئيس الجمهوري ريتشادر نيسكون مستشارًا للأمن القومي في العام 1969، ومن ثم وزيرًا للخارجية. ولقد احتفظ بالمنصبين معا ما بين عاميي 1973و1975.
هنري كيسنجر مع الزعيم السوفياتي ليونيد بريجنيف في موسكو عام 1973
ووتريغايت
ورغم استقالة نيكسون عام 1974 جراء فضيحة ووتريغايت، صمد كيسنجر في منصبه وزيرًا للخارجية في عهد خلفه جيرالد فورد حتى العام 1977.
بوش
وقال الرئيس الأميركي الجمهوري السابق جورج دبليو بوش: "بوفات هنري كيسنجر خسرت الولايات المتحدة أحد أكثر أصواتها صلابة واحتراما على صعيد السياسة الخارجية".
وزير الخارجية الأميركي آنذاك هنري كيسنجر (يمين) يلتقي بالرئيس الصيني ماو تسي تونغ في 24 نوفمبر 1973 في بكين.
الصين
وبقيت كلمة كيسنجر الذي بلغ المئة في مايو(أيار) الماضي مسموعة لدى كبار القادة في العالم رغم مرور عقود طويلة على مغادرته مهامه الرسمية. فظلّ حتى وفاته فاعلاً على الساحة السياسية الدولية ولم يثنه تقدّمه في السنّ عن السفر ولقاء الكثير من القادة الكبار، وكان آخرهم الرئيس الصيني شي جينبينغ الذي التقاه في يوليو(تمّوز) الفائت في الصين، وأشاد به يومها قائلاً إنه "دبلوماسي اسطوري".
ووصف السفير الصيني لدى الولايات المتحدة شي فينغ وفاة كيسنجر بأنها "خسارة كبيرة". وكتب عبر منصة اكس "أنا حزين جدا" لوفاة مهندس التقارب بين واشنطن وبكين في السبعينات.
وأشاد رئيس الوزراء الياباني فوميو كيشيدا بـ"مساهمات كيسنجر القيّمة في السلام والاستقرار" في آسيا و"لا سيما تطبيع العلاقات الدبلوماسية بين الولايات المتحدة والصين".
مهندس التقارب
وكان للصين مكانة خاصة في مسيرة كيسنجر الدبلوماسية. فقد لعب دورًا مهما في كسر الجليد لبناء العلاقات الأميركية مع الصين الشيوعية في عهد ماو تسي تونغ من خلال لقاءات سرية مهدت الطريق لزيارة تاريخية قام بها ريتشارد نيكسون لبكين في العام 1972.
وكان لسياسة اليد الممدودة التي مارسها كيسنجر دورًا مهمًا بوضع حد لعزلة الصين، وبروزها كقوة اقتصادية على الساحة الدولية.
هذا وعُرِفَ كيسنجر أيضا بدوره كوسيط بين اسرائيل والدول العربية.
ولعب دورًا بارزًا في العام 1973 بعد الهجوم المباغت للدول العربية على إسرائيل، حيث نظم جسرًا جويًا كبيرًا لمدّ الحليف الإسرائيلي بالأسلحة.
يرحل كيسنجر بينما تستمر الأحداث تعقيدًا في العالم والشرق الأوسط وسط الصراع القائم حول القضية الفلسطينية منذ عقود، وربما ستبقى بصماته حاضرة على العقود المقبلة، باعتباره السياسي الجمهوري الأبرز في الولايات المتحدة واللاعب الأقوى في سياستها الخارجية.