: آخر تحديث

ما بعد تَصدّع «محور المقاومة»!

4
4
3

ضمن السياق الذي أطلقته 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، جاءت الهجمات الإسرائيلية ضد إيران وحرب الـ12 يوماً بين البلدين، وتكثيف الاستهداف الممنهج لـ«حزب الله» في جنوب لبنان وضاحية بيروت الجنوبية، حتى بعد إعلان وقف المواجهات على الحدود، فضلاً عن العمليات المستمرة ضد حركة «حماس» في غزة، والضربات العسكرية - وإن كان أثرها لا يزال محدوداً - على الحوثيين في اليمن. وفي ظل هذا كله، تبدو معالم ما يُعرف بـ«محور المقاومة» في حالة تراجع هيكلي، وسط متغيرات إقليمية ودولية تُعيد رسم خريطة النفوذ في الشرق الأوسط. كما لا يمكن تجاهل الانهيار الدراماتيكي لنظام بشار الأسد في سوريا، وخروجه من السلطة نهائياً، بعد أن كانت سوريا ممرّاً رئيسياً للتزويد بالعتاد العسكري.

التوازنات الجديدة في المنطقة، ورغم دموية ما جرى وما يحدث يومياً في قطاع غزة من عمليات تجويع وتهجير قسري ممنهج، واستهداف للمدنيين، إضافة للاشتباكات في سوريا، ومساعي تل أبيب إلى الاستفادة من هذه التناقضات وخلق واقع إقليمي جديد، مأخوذة بنشوة القوة المفرطة، كل ذلك طرح العديد من الأسئلة عن مستقبل المكونات الطائفية والعرقية في الشرق الأوسط، وهل هنالك تفوق أو غلبة لمكون على آخر؟

المتبصرُ في التبدلات البنيوية في عدد من الدول نتيجة ما بعد 7 أكتوبر، يعي جيداً أن لا مجال للفرز على أسس دينية ومذهبية وعرقية، وأن هناك مستقبلاً مشتركاً لمختلف المكونات، فإما أن يسود السلام المنطقة، وتنعم به جميع شعوبها، وإلا فإن الفوضى سيدفع الكُلُّ ثمنها، وستكون إسرائيل بسياساتها المتطرفة هي الرابح الأكبر، لتخلق فراغاً ستسعى الجماعات الأصولية للاستفادة منه وتعزيز نفوذها.

من القراءات التي سادت في هذه المرحلة، أن تصدع «محور المقاومة» وسقوط نظام الأسد، يعني بالضرورة خسارة الشيعة في الدول العربية، وأنهم بضعفِ إيران و«حزب الله» اللبناني، سوف يكونون مجرد هامشٍ في دولهم، ولكي تكون لهم القوة والهيبة، لا بد أن يستعيد «محور المقاومة» عنفوانه، ويبني هياكله مجدداً!

رغم رواج السردية السابقة، فإن المفارقة اللافتة أن هذا التراجع لـ«محور المقاومة» لا يعني، كما يروِّج البعض، خسارة للمكوِّن الشيعي في العالم العربي، بل على العكس من ذلك تماماً، هو لحظة فاصلة يمكن أن تتيح للعرب الشيعة التحرر من أسر مشروع سياسي فوق وطني، استُخدم فيه المذهب بوصفه أداةً آيديولوجية، لا مجالاً للتنوع الديني أو الفقهي المشروع.

لقد تأسس «محور المقاومة» على شعارات مواجهة إسرائيل والولايات المتحدة، لكنه في واقع الأمر انخرط في صراعات طائفية، وابتعد عن منطق الدولة، معتمداً على الميليشيات والولاءات العابرة للحدود. وقد ساهم هذا المسار في رسم صورة للشيعة أظهرتهم وكأنهم وكلاء لمشاريع خارجية، وخلق بيئة من التوجس الطائفي حوَّلت الانتماء المذهبي إلى عبء سياسي.

لا يوجد إنسان يفكر بعقل سياسي وضمير أخلاقي يُمكنه أن يبرر الاعتداءات الإسرائيلية التي استهدفت المدنيين العُزّل، وقتلت آلاف الأطفال والنساء والشيوخ، فهذه جرائم حرب موصوفة، وانتهاك للقانون الدولي. وفي الوقت ذاته، تمكن قراءة هذه الضربات ومآلاتها، بكونها أعمالاً لم تكن فقط عسكرية، بل سياسية وأمنية معاً؛ فقد كشفت هشاشة المنظومة الأمنية لـ«محور المقاومة» وعجزه عن الردع الفعلي المؤلم والمؤثر، كما أظهرت حدود قدرة إيران على حماية حلفائها، لا سيما في ظل تفاقم أزماتها الداخلية والاقتصادية. كما أن انفصال نخبة مؤثرة من الشخصيات الوطنية الشيعية في دول الخليج العربي والعراق ولبنان عن هذا «المحور»، ونقدهم الصريح له، والدعوة إلى مشروع «مدني - وطني» يشير إلى تصدع بنيوي في رواية «المقاومة» التقليدية التي حاولت احتكار الشيعة!

إن المواطنين الشيعة في الخليج والعراق ولبنان وسوريا واليمن، ليسوا حالة طارئة، بل مكون أصيل في مجتمعاتهم، ساهموا في بناء الدول الحديثة، وكانوا جزءاً من النخب الإدارية والثقافية والاقتصادية، وتربطهم علاقة الولاء لقيادتهم السياسية في أوطانهم.

من خلال ما سبق، من المهم في هذه المرحلة الحرجة، تعزيز استقلال القرار الوطني للعرب الشيعة، وذلك عبر تطوير خطاب سياسي وثقافي يؤكد أولوية الانتماء الوطني، ورفض الارتهان للمشاريع العابرة للحدود، مع تعزيز التفكير المدني الحر والناقد.

من جهة أخرى، تبرز أهمية إحياء «العقد الاجتماعي» عربياً، وذلك من خلال ترسيخ مبدأ «سيادة القانون» و«المواطنة المتساوية»، وتوسيع فضاء تكافؤ الفرص، بما يقطع الطريق أمام محاولات القوى الخارجية الولوج إلى الساحات الداخلية وإثارة الفتن.

ولعلَّ من أهم الخطوات لمنع القوى العابرة للحدود من التأثير، أن يتم تفكيك الخطاب الطائفي الذي يُثير المشكلات بين المواطنين، وغربلة الخطاب الديني لدى مختلف المذاهب. فالنخب الإعلامية والثقافية في العالم العربي عليها أن تتنبه إلى عدم تعميم «الطائفية السياسية»؛ لأن في ذلك مخاطر على السلم الأهلي تجعله هشّاً!

المرحلة المقبلة يجب أن تؤسس لرؤية وطنية، مدنية، عربية، داخلية، تقوم على المساواة والعدالة، فالمستقبل ليس لطائفة من دون أخرى، بل لكل مواطن يرى في الدولة ضمانته وسقفه الشرعي الوحيد، وفقط.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد