رجلٌ على نهايةِ خطِّ الستينات يتذكرُ ويغفو.. ثم يعدو في المدينة المنورة، كنتُ آخذ من الحصالة ثم أخف مسرعاً إلى مكتبة في شارع العيينة اسمها الضياء، كان رجلاً مكفهراً ينهر كلَّ الناس إلاّ أنا النجدي القادم من الزلفي الحريص على فترته والباحث عن إخفائها بلهجة مدينية متعثرة.. كان مستغرباً من مداومتي اليومية على الإلمام بمكتبته.. كانت المدينة آنذاك من أجمل ما خُلِقَ على وجه الكرة الأرضية، في أسواقها وناسها ذوي اللغات واللهجات المتنوعة ومآذنها العالية وآثارها الشامخة حتى بقيعها يبدو محفوفاً بالأناقة، كانت باذخةً تاريخياً في شكل هندسي كما لم يمسسها بشر.
وهناك قرأت «عكاظ» من بين ما قرأت من الصحف آنذاك، كانت المملكة ذاك الحين تشهد نهضة صحافية معتبرة، إذ تتنافس «بلاد» حسن عبدالحي قزاز مع «عكاظ» أحمد عبدالغفور عطار وبينهما أسبوعية الحافظين علي وعثمان حافظ (المدينة)، وأسبوعية الرائد التي كانت تصدر كل إثنين للأستاذ عبدالفتاح أبو مدين. وهناك «المنهل» لعبدالقدوس الأنصاري، و«قريش» لأحمد السباعي أما الرياض فكانت اليمامة والجزيرة تصدران أسبوعياً، وكذلك «القصيم» غير أن الظهران قاعدة المنطقة تزخر بالصحف والمجلات.. والاتجاهات.
كانت هذه التوليفة بداية نشوء الصحف السعودية وتطورها.. وكان يمكن لها أن تقفز وتتوسع لكن الخشية من الانفلات والتعددية أنبتت في عقول مسؤولي الإعلام وقتها فكرة المؤسسات الصحافية التي لها ما لها، وعليها ما عليها.
في المدينة وبسبب ظروف المواصلات لم تبع إلا المنشورات الصادرة في الحجاز.. ومن هنا لمعت أسماء كبيرة صارت فيما بعد رموزاً خفاقةً في سماءِ الكتابة والإعلام السعودي..
عرفت «عكاظاً» الأولى من خلال الأديب الكبير أحمد عبدالغفور عطار، والألطف أني عرفته عن طريق كتاب الصحاح حين وجدته في مكتبة المنزل ولم اهتم بالكتاب، بل اهتممت بمؤلفه السعودي الذي أرى للمرة الأولى مؤلفاً سعودياً يشارك كاتباً مصرياً في تأليف هذا الكتاب، قطعاً لم استوعب الكتاب وإلاّ لأخفيتُ بعض عيوبي اللغوية.
ما علينا..
إذا كانت صحافة الأفراد تعطي للرأي مسافاتٍ فإنّ عصر التصحيف بدأ مع المؤسسات، وهنا بدأت «عكاظ» التحوّل أو قادته إلى خيمة الخبر والتحقيق وإن كان على استحياء..
ويحق لي وقد رافقت التجربة العكاظية منذ بداياتها اليومية أن أحاول الانشداد إلى ثلاثة مشاهد شدتني إلى التوقف عندها دون الاعتراف بأنها أكثر من ثلاثة لولا ضيق المساحة..
المشهد الأول:
في زعمي أن ظاهرة عبدالله عمر خياط ليستْ عابرة في تاريخ الصحافة السعودية.. ففي زمنه بدأت الجريدة التي يرأس تحريرها بالاهتمام بالمواهب الشابة وزخرفة الصفحات والاستعانة ببعض التجارب خارج مساحة الوطن، إضافة إلى طرح نفسها جريدةً محليةً كبرى.. وظن -وبعض الظن إثم- أنه منذ أن أسس أحمد عبيد مجلة سماها الرياض وأجرى حديثاً مع سمو الأمير فهد -وزير التعليم آنذاك، صمتت الصحافة عشرين عاماً حتى فاجأ عبدالله خياط الناس بحديث موسع مع الأمير فهد الذي أصبح نائباً ثانياً لمجلس الوزراء ووزيراً للداخلية، فضلاً عن أنه أصبح مرشحاً محتملاً للعرش وهذا ما حدث.. كان الحديث بدايةً للخروج من مفهومٍ إلى مفهومٍ ومن عصرٍ إلى عصرٍ..
المشهد الثاني:
ثنائية علي شبكشي - رضا لاري
هذه مرحلة تميزت بالتطوير الإداري الذي يملكه علي شبكشي مع العقلية الإعلامية المخلوطة ببيتٍ تجاريٍّ عريقٍ، عرّفني على السيد علي شبكشي الزميل الكبير عبدالله باجبير أيامَ بواكير لندن، وكان يحرص على لقائي سواءً في مكتبه بـ«عكاظ» على حافة فليت ستريت، أو في منزله شمال لندن، وكان رجل الأعمال لا يتحدث إلا عن الهم الصحافي.. والحكايات السياسية.
أما رفيقه رضا لاري فكان فاكهة من النوع الرفيع قَدِمَ إلى الصحافة من فضاء الدبلوماسية، متسلحاً بتجربةٍ أوروبيةٍ، مضى بـ«عكاظ» بعيداً نحو ساحاتٍ خارجيةٍ، واتخذ مواقفَ سياسيةً مميزةً، كان أهمها تأييده مبادرة السادات، وانطلاقه بالجريدة إلى عوالم المقابلات والجولات، مستفيداً من تجربته وعلاقاته الواسعة.
لم يعشْ لاري في «عكاظ» طويلاً، إذ تتبع طريقَ أشقياءِ الصحافةِ ومشاغبيها.
المشهد الثالث:
ثنائية كامل - الذيابي
وهي المرحلة الراهنة التي تعيشها الجريدة، فالشيخ عبدالله صالح كامل ابنُ مدرسةٍ إعلاميةٍ متكاملةٍ كان مُنْشِئُها والدُهُ الذي رحل عن دنيانا قبلَ فترةٍ وجيزةٍ بعدَ عقودٍ حافلةٍ بالعطاءِ والمبادراتِ الإعلاميةِ المتعددةِ والمفصليةِ، وإذا تجاوزنا ما قدّمه في مجال التلفزيون والإذاعة والإنتاج المرئي، فإنَّ أدواره في الصحافة كثيرةٌ منها صحيفة مكة، و«عكاظ»، وحين تولى ابنُهُ عبدالله رئاسةَ مجلسِ إدارةِ «عكاظ» لم يعاملْهُ كشيءٍ شرفيٍّ، بل دخل المعمعة؛ ليكون ملاصقاً لعملية التحرير، ومن هنا استعان بزميلٍ خُطِفَ من منزلي دونَ علمٍ إلى جريدةِ الحياةِ ثم ها هو في «عكاظ».
ثنائية عبدالله كامل وجميل الذيابي تتميز بالانسجام وفهم معنى الثنائية المطلوبة من أيِّ عمل ناجح مميز ومن هنا نعي تجربة «عكاظ» المتجددة في استيعاب مجمل التطورات الجديدة في الابتكار والتجديد وعدم تفويت الفرص من أجل بناءِ صحافةٍ غير مسبوقةٍ.
هذه التوليفة تعطي للعمل الصحافي دفعةً نحو السباقِ، نحو مستقبلٍ أفضل.
حاشية:
أعتذرُ إذا لَمْ أستعرضْ كُلَّ المراحلِ والرّجالِ الذين لهم مُساهماتٌ واضحةٌ، فرئيسُ التحريرِ لا يسمحُ بالإطالةِ، خصوصاً إذا عاملَ رئيسَ تحريرٍ سابقاً قبلَهُ، فهو يُعامِلُهُ بحرفيةٍ واستبدادٍ، فيَخْشَى الرئيسُ السابقُ من الرئيسِ اللاحقِ.
* للإطلاع على المقال في صحيفة عكاظ (أنقر هنا).