منذ عملية "شراي ايبدو" الإرهابية مطلع عام 2015، تعددتالملفات في المجلات والجرائد الفرنسية عن الإسلام والثقافة العربية في ماضبها بالخصوص.ومن أهم هذه الملفات ذلك الذي خصصته العدد الخاص من مجلة"لوبوان" لثلاثة من عظماء الفلاسفة المسلمين وهم الفارابي وابن سينا وابن رشد. وفي مقدمة الملف المذكور، تمّت الإشارة الى أن الفلاسفة المسلمين لم يكونوا يتمتعون بالحرية الفكرية بالمعنى الحقيقي للكلمة، إلاّ أن ذلك لم يمنعهم من أن يواجهوا التحجر الفكري والعقائدي. وما كان يجمع بينهم هو أنهم دعوا المسلمين إلى حبّ المعرفة، وإلى تجنب الدوغمائية والسفسطة البلاغية، والعمل على توفير السعادة الحقيقية على الأرض من خلال تمرين إستكمال الذات، أي من خلال جعل الفكر وحده وسيلة لتقريب الإنسان من الإلهي. وجميع الفلاسفة المسلمين كانوا أيضا يتطلعون الى أن تكون المدينة محكومة من قبل حكيم، مُدللين بذلك على أنهم كانوا يرفضون الحكم بالقوة والبطش والعنف. وفي الحوار الذي أجري معه، والذي نشر ضمن الملف المذكور، أشار الفيلسوف الفرنسي جان-بابتيست برنيه الى أنه اكتشف إبن رشد في الجامعة في الفترة التي كان يعدّ فيها أطروحة عن توماس الأكويني الذي كان من المعادين الكبار له. وقد إنجذب اليه لأنه كان منذ بداية مسيرته الفكرية يفضل الفلاسفة المتمردين على غيرهم من الفلاسفة. ويضيف جان -بابتسيت برنيه قائلا:”هناك إبن رشد العربي، وهو شخصية معقدة في حد ذاتها. وهناك إبن رشد أو أفيرواس اللاتيني، الذي نسميه ب"شارح أرسطو"، والذي توفي عام 1198. بعد مرور أزيد من عشرين عاما على وفاته، تلقت أوروبا أعماله قبل أن تتلقى أعمال إبن سينا.وكانت هذه الفترة غنية ورائعة قد تكون الإنسانية غير قادرة لأمد طويل على إدراك منجزاتها العظيمة. فيها امتلك الغرب من خلال بعض الموجات خلاصة فلسفة أرسطو". ويضيف جان- بابتيست برنيه قائلا بإن إبن رشد كان شارحا عبقريّا. ولم يكن أبدا مجرّد ببغاء تقتصر مهمته على ترديد ما يقوله معلمه. وأرسطوليته بارعة وثرية. والموضوع الأساسي الذي كان يحبّ الخوض فيه، والذي كان شديد التعقيد عند أرسطو هو المتعلق بمسألة روح الكائن، وخصوصا علاقتها مع العقل. وفي مؤلفه "شرح كتاب النفس" هو بلور النظرية التي أثارت ثائرة أعدائه لذا سارعوا بتكفيره.ومُلخصا هذه النظرية، يقول جان-بابتيست برنيه:”علينا أن نعود إلى مصدر الصعوبة عند أرسطو.ف في حين نجد أن الروح والجسد عند أفلاطون منفصلان، نحن نعاين عند أرسطو أن الروح هي شكل الجسد، وهي المبدأ الذي يحركه ويجعله حيّا. وإذن هي -أي الروح-ليست منفصلة عن الجسد. إلاّ أن الإنسان ليس حيوانا يعيش مثل بقية الحيوانات. فله روح تتميز بملكة متفوّقة تسمح له بأن يفكر. وهذه الملكة هي العقل. ولكن كيف تتمّ عملية تأقلم هذه القوة الفكرية مع الروح الإنسانية؟ هذا أمر ظلّ غير واضح لدى أرسطو. ولعل الدافع الأساسي لابن رشد كي يبلور نظريته الشهيرة هو الإجابة عن السؤال المذكور. وتتلخص هذه النظرية في مقترحات ثلاثة تبدو كما لو أنها عمل جنوني. وسوف تصدم المقترحات الثلاثة أوروبا على مدى خمسة قرون من الزمن. المقترح الأول يقول بإن العقل مادة منفصلة عن الجسد. والثاني يرى أن العقل واحد لدى الانسانية جمعاء. أما الثالث فيؤكد على أن العقل أبديّ، وأنه لم يخلق، وأنه يظل حيّا بعد موت الجسد".
وقد عارض إبن رشد في شروحاته عباقرة في الفكر اللاهوتي في أوروبا في العصور الوسيطة. بينهم القديس بونافاتور، وتوماس الأكويني، وألبير لوغران.وبالنسبة لهؤلاء كانت نظرية العقل "كارثة عظمى".وباختصار هي تدمر العقلانية الشخصية. وهي "سبّة" حقيقية للإنسانية وللفرد البشري. وهي"فكرة غريبة ودخيلة" إذ أن عقلا واحدا بالنسبة لجميع الكائنات البشرية لا يعني شيئا آخر غير فوضى الأفكار، والتلميذ والأستاذ، والسيد والعبد، والضحية والجلاد، والمؤمن والكافر، وجميع هؤلاء يتقاسمون نفس الذكاء، وفي نفس الزمن. لذلك لم يتردّد توماس الأكويني في نزع صفة" الشارح" عن إبن رشد ليصفه ب"الفاسد" وب"المتفسخ". وانطلاقا من القرن الثالث عشر، ،ازدادت التهجمات من قبل رجال اللاهوت في أوروبا ضد إبن رشد ليصبح مثالا للنفاق والغش والتحيّل في المجال الفكري. وهو رجل" الحقيقة المزدوجة"، أي ذلك الذي يجعلنا نعتقد أن هناك حقيقة في مجال الفلسفة، وأخرى في مجال العقيدة من دون تكون هاتان الحقيقتان متناقضتين. ويرى جان -بابتيست برنيه ان قوة إبن رشد تتمثل في أنه أقّر بأن الفلسفة لا تتعارض مع الإسلام، بل أنها "إجبارية" لمن تكون لهم مُتَاحة. غير أنه يقر أيضا بأن للفلسفة طريقا وللدين طريقا آخر من دون أن يمنع كل واحد منهما من التوصل الى نفس الحقيقة. ومعنى هذا أن إبن رشد كان فيلسوف الحقيقة الواحدة والطرق المتعددة، وليس"رجل الحقيقة المزدوجة" مثلما ادعى ذلك خصومه من رجال اللاهوات في أوروبا .ويختم جان -بابتيست برنيه حديثه عن إبن رشد قائلا:”من ناحية الشكل نقدر أن نقول بإن إبن رشد يحيّر أوروبا، ويفتنها، ويصدمها ذلك أنه اعتبارا لمدونته، ليس بربريا على الحدود، وإنما هو وجهها الآخر من الداخل إلى الداخل. آخر يمكن لأوروبا أن تستعمله، ومنه تستوحي قبل أن ترغب من دون أي شك في أن تمحو تراثه الفكري" ...