بعد هذه الرحلة العسيرة نصل إلى محطة الاستراحة الأخيرة لنكتشف أننا لسنا وحيدين وإن نهايتنا ليست بديهية. فأغلب العلماء الكوسمولوجيين والفيزيائيين يتفقون على إمكانية وجود عوالم موازية لعلمنا ويمكنها أن تتفاعل معه بطريقة ما. بل توجد نظرية علمية رصينة تبحث في هذا الموضوع تحمل عنوان " فرضية تعددية العوالم المتفاعلة l’hypothèse des Multi-Mondes en interaction" وهي فكرة عميقة ومتجذرة في أذهان من يتداولونها في الأوساط العلمية اليومية. توحي هذه النظرية بأن هذا العالم الذي نعيش فيه، ليس فقط موجود وحقيقي فحسب، بل وهو يتعايش ويتجاور ويتداخل مع عوالم أخرى موجود فعلاً وتتفاعل معه ولكن على المستوى الكمومي أو الكوانتي في الوقت الحاضر كما تخبرنا تجاربنا في هذا الميدان لأنها تمكنت من رصد وجود مثل هذه العوالم الخفية أو المتوارية عن أنظار البشر، بيد أننا لا نمتلك التكنولوجيا المتقدمة جداً اللازمة التي تثبت لنا تفاعلها مع عالمنا على مستوى اللامتناهي في الكبر أي ما فوق الذري إلى اللانهاية، إلا في أفلام وروايات الخيال العلمي، لذلك فهي في الوقت الحاضر في مرحلة النظرية العلمية، بيد أنها تفسر بعض التبعات والنتائج والانعكاسات الغريبة الملازمة للميكانيك الكمومي أو الكوانتي.
وكلنا يعرف أن الميكانيك الكمومي أو الكوانتي هو نظرية رياضياتية وفيزيائية علمية تصف لنا البنيات والتطورات الحاصلة في الزمان والمكان، أي الظواهر الفيزيائية في المستوى ما دون الذري واللامتناهي في الصغر.
وبالرغم من إخضاع الميكانيك الكمومي أو الكوانتي لمختلف الاختبارات والتجارب العلمية المختبرية والنظرية والرياضية إلا أنه مازال مستعصيا على الفهم الكلي والاستيعاب الكامل لأسراره وغموضه وصعوبته فهو العائق العلمي الأول للحدسية مما دفع العالم الفيزيائي الشهير ريشارد فينمان Richard Feynman، أن يصرح " أعتقد بأننا يمكن أن نؤكد بكل أمان وثقة بأنه لا أحد يفهم الميكانيك الكمومي أو الكوانتي ". ولقد قادت بضعة تجارب توضيحية وتفسيرية قام بها العلماء على عدد من النتائج الغريبة الناجمة عن النظرية الكمومية أو الكوانتية، قادتهم إلى صياغة تفسيرات أغرب تتحدث عن عدة عوالم موازية لعالمنا كتفسير علمي وحيد لتلك الظواهر الغريبة.
وهذه النظرية هي تنويع مختلف نوعاً ما عن فرضية تعدد العوالم في حالة تفاعل على ضوء التفسيرات المختلفة للكون الكمومي أو الكوانتي l’hypothèse des Multi-Mondes en interaction à la lumière des diverses interprétations de l’univers quantique. وهي أطروحة تتحدث عن عدة تواريخ مختلفة للحدث الواحدبديلة للتاريخ المعلوم للحدث الذي نعرفه ، تحدث في الزمكان بعيداً عن أنظارنا وبالتوازي مع وقوع الحدث الآني وبالتالي لها مستقبل مختلف لكل واحد منها وتتواجد كلها في نفس المكان إلا أن الزمان بالنسبة لها مختل فلكل تاريخ منها زمانه الخاص. فكل مستقبل يمثل عالماً موازياً أو عالماً بديلاً . هذه الأطروحة النظرية ممتعة وجذابة لكنها لم تخضع للتدقيق والاختبار التجريبي بعد فنحن لا نستطيع القيام بالمشاهدات والحسابات والاختبارات إلا في عالمنا فحسب. فالأحداث الموازية المنطلقة من نفس الحدث الأولي والمتشعبة في العوالم الموازية لا يمكن رصدها ومعرفة تطورها في الوقت الحاضر فلم يتمكن أحد لحد الآن من السفر والانتقال من عالمنا إلى أحد تلك العوالم الموازية ليرى كيف تطورت قصته الشخصية هو ذاته وأي مسار اتخذت غير مساره الواقعي الذي يعيشه الآن، وبالتالي لا يمكن تخيلها.
بينما تقترح نظرية العوالم المتعددة المتفاعلة la théorie des Multi-Mondes en interaction، شيئاً مختلفاً ومعاكساً. فهي تقول أن العاوالم المختلفة والمتوازية يمكنها أن تتفاعل على المستوى الكمومي أو الكوانتي وهو أمر ثبت مختبرياً لهذا لا يوجد مانع أن يكون التفاعل أيضاً على المستوى الأكبر. ومن المعروف أن فكرة الأكوان المتوازية في الميكانيك الكمومي أو الكوانتي موجودة منذ سنة 1957، كما يوضح العالم هوارد وايزمان Howard Wiseman، وهو عالم فيزيائي من جامعة غريفيث في بريسبان في استراليا وأحد الآباء المؤسسين لهذه النظرية. ويقول بهذا الصدد عند تفسيرنا لفرضية العوالم المتعددة نكتشف رياضياً أن كل كون يمثل فرعاً مختلفاً كفروع وأغصان الشجرة الكثيفة في غابة كثيفة،حيث يتشكل كون جديد في كل مرة تجرى فيها عملية قياس أو حساب كمومي أو كوانتي . فهناك عدة إمكانيات وكل الممكنات متحققة وتحدث فعلياً حيث تتوقف الإحتمالية وتنتهي هنا حيث ليس لها وجود . وكل واحد منا لديه نسخة للمستقبل خاصة به لكنها مجرد صيغة واحدة لمستقبل واحد في حين أن كل الإمكانيات لمستقبلات مختلفة موجود بالتوازي وتحدث فعلياً. ففي عالمي الواقعي قد أكون عالماً يكتب هذه السطور وفي مستقبل آخر لي في عالم موازي قد أكون مجرم حرب أو رئيس دولة أو متسكع ضائع بلا هدف الخ. وبالنسبة للأرض، هناك المستقبل الذي نعرفه ونعيشه يوميا بكافة مجرياته، وهناك مستقبل آخر للأرض لا نعرفه. فربما يكون المذنب الذي ضرب الأرض وأباد الديناصورات في الماضي قد أخطأ الكرة الأرضية وابتعد عنها ، وقد تكون استراليا في مستقل آخر للأرض قد أكتشفت من قبل البرتغال، وقد يكون شخص آخر غير كريستوف كولومبس هو الذي يكتشف العالم الجديد الخ..
الإشكال الذي يعطي المناكفين مجلاً للنقد والتشكيك في تعاطيهم مع واقع تلك الأكوان الموازية الأخرى هو كونها لا تؤثر على كوننا المرئي على الإطلاق وكأنها غير موجودة. لذلك يقول هوارد وايزمن :" نظراً لهذه الحقيقة فإن تفسيرنا وترجمتنا للعوالم المتعددة Multi-Mondes، مختلف كلياً كما يوحي بذلك العنوان الذي إقترحناه لنظريتنا". ولقد نوه وايزمان وزملائه بفكرة أن هناك قوة كونية نابذة أو طاردة force universelle de répulsion، بين جميع العوالم المتوازية متقاربة ومتشابهة ومتساوية مما يجعلها غير مترابطة ويميل إلى جعلها متباينة يتعذر جمعها ومن هنا يمكن تفسير التأثيرات الكمومية أو الكوانتية effets quantiquesبأخذ هذه القوة الكونية الخفية النابذة أو الطاردة . في الوقت الحاضر وحدهم علماء الرياضيات هم يمتلكون مفاتيح هذه النظرية ويمتلكون الأجوبة الكبيرة بخصوص هذه النظرية ويعملون حالياً تحويل التأثيرات الكمومية أو الكوانية إلى صيغ ومعادلات رياضية .
من الواضح أن النظرية تقدم بضعة أفكار وتنبؤات مهمة تضيف الماء لطواحين المخيلة البشرية. فعلى سبيل المثال إذا ما تساءلنا عما إذا كان بوسع هذه النظرية فهم إمكانية أن يتفاعل البشر مع نسخهم في العوالم الأخرى ، يجيب وايزمان :" لا يشكل ذلك الآن جزء من المتن التنظيري لنظريتنا أو يشكل جزء أساسي منها لكن الفكرة التي تتعاطى مع إمكانية حدوث تفاعلات بشرية مع الأكوان الأخرى لم تعد فنطازية وممكنة جداً من الناحية العلمية النظرية في الوقت الحاضر". فكيف ستكون حياة البشر لو أتيح لهم تجريب كافة الإمكانيات والسيناريوهات الممكنة حسب مختلف الاختيارات ؟ قد نتمكن في المستقبل البعيد من مراقبة ورصد ما يحدث لكل واحد منا بالتوازي مع واقعه الحالي ، ولكن في الأكوان والعوالم الموازية لعالمنا ، ناهيك عن إمكانية التدخل لمنع وقوع بعض الحوادث التراجيدية والكوارث.