عبدالله السويجيمعظم الثقافات تستخدم هذه العبارة (العربة أمام الحصان)، لتدل على العقل الفوضوي وسوء التخطيط والعشوائية، وبعض اللغات كالإسبانية تستخدم الثور بدلاً من الحصان وتصبح (العربة أمام الثور)، لكن المعنى يبقى ولا يتغيّر. وحين تتفق المجتمعات واللغات على عبارة محدّدة تذهب مثلاً، فهذا يعني أن ثمة تطابقاً في التفكير المنطقي الإنساني، فحين نضع العربة أمام الحصان أو الثور، تتوقف الحركة، ويتم تعطيل القدرات والإمكانيات، وبحركة بسيطة يمكن إعادة الفعل إلى منطقه، والنشاط إلى صاحبه، وهذه الحركة هي وضع العربة خلف الحصان. لكن معايير القيادة تقول، إنه حتى نحصل على عمل متقن يجب الحرص على النوعية، كأن لا نأتي فقط بحصان وعربة، بل بحصان أصيل ونشيط وعربة جديدة وقوية. ويشبه هذا القول أو المثال (وراء كل عظيم امرأة)، وهو قول ناقص، لأن القول الأصلي يقول: إن تلك المرأة ليست أي امرأة، ولكنها امرأة عظيمة، وبذلك يصبح القول (وراء كل رجل عظيم امرأة عظيمة)، ولن نبحث هنا في معايير العظمة.أن يقوم فرد بوضع العربة أمام الحصان، فهذا عمل محتمل، لأن التفكير الفردي أحادي ومفرد ويمكن أن يضطرب ويخطئ، وقد يحدث هذا في العصف الذهني لأفكار الأفراد، سرعان ما يتم اكتشاف سلبياته، عن طريق التجربة البسيطة، أما أن تقوم دولٌ بوضع العربة أمام الحصان، فهو أمر خطر جداً، ويدل على قلّة خبرة المستشارين والمخططين والمفكرين، صحيح أن هذا نادر الحدوث، إلا أنه يحدث حين تُحشر الدولة في الزاوية، ويُطلب منها إجراء خطوات إصلاحية، فتلجأ إلى اتخاذ قرارات غير حكيمة، ومرتجلة، ظنّاً منها أنها تقوم بخطوات سليمة. على سبيل المثال تسعى دولة ما إلى القيام بإصلاحات لتحصل على دعم من صندوق النقد الدولي أو الدول المانحة، وتنظر إلى الإصلاح على أنه مجموعة قرارات يتم اتخاذها على مستوى الحكومة والمؤسسات، ناسية أن الإصلاح ليس مجرد إعادة هيكلة شكلية، وإنما هو عملية قاعدية تبدأ من الأساس وتنطلق إلى الأعلى، أي إن تفشّي الرشوة في حكومة ما، وازدهار الواسطة، لا يتم القضاء عليهما بقرار حكومي، لأن محاربة الرشوة تتم من خلال محاربتها في المجتمع القائم على الرشوة والمحسوبيات والواسطة، أي إنها عملية تربوية تستند إلى برامج وحملات توعية وسياسات ومناهج متطورة تبدأ منذ المرحلة التأسيسية للتلميذ، بل تبدأ بتغيير عقلية الأهل أولاً وأخيراً. وهذه تشبه إصلاح نظام المرور الذي لا يبدأ بسن قوانين، ولكن بنشر التوعية بين الناس، واحترام القانون والآخرين من مستخدمي الطريق، فإذا سلكت الدولة منهجاً آخر تكون قد وضعت العربة أمام الحصان.وعلى الصعيد السياسي، تحدثت في مقال سابق عن الاعتراف بدولة فلسطين من قِبل دول أوروبية، بينما لا يوجد شيء اسمه دولة فلسطين بمعناها السيادي، لأن وجود الدولة أكثر من مجرد وجود رئيس ووزارات ومؤسسات، وجود الدولة في حاجة إلى دستور في المقام الأول، وفي حاجة إلى حدود، وموانئ بحرية وبرية وجوية، وفي حاجة إلى عملة نقدية، وسيادة حقيقية. وكذلك في موضوع إلغاء الطائفية في مجتمع تنخره الطائفية، إن حل هذه المسألة لا يبدأ بإصدار قانون يلغي الطائفية، ولكن ببرامج ومناهج مدرسية وتوعوية تحارب الطائفية وتظهر سلبياتها على المجتمع.إن وضع العربة خلف الحصان ليس مجرد إجراء شكلي، إنه استراتيجية ورؤى وأهداف، ثم خطط تنفيذية مدروسة وحملات دورية تتم مراجعتها بين فترة وأخرى لتطويرها وتقييمها واستبدالها بخطط وبرامج أخرى. وقد يتطلب تحقيق الجودة كتغيير نوع الحصان أو تغيير مواصفات العربة في إطار التطوير المستمر وعصف الأفكار الدائم واستحداث المبادرات.نحن في دولة الإمارات العربية المتحدة، أصبحنا نمتلك تجارب ناجحة في وضع العربة خلف الحصان، تجارب تبدأ بالتفكير المنطقي وصولاً إلى مستقبل منطق التفكير، ولا بأس في تنشيط العملية الفكرية وعصف الأفكار وتداول النظريات، لا بأس من استخدام الرياضيات والفيزياء للوصول إلى النظرية المحكمة، ثم يتم تنفيذها على أرض الواقع، كما حصل في الميدان التعليمي عن طريق المدارس النموذجية قبل سنوات، حتى أصبح التعليم الحكومي تجربة نموذجية حديثة تُحتذى.نحن في مشهد لا يحتمل وضع العربة أمام الحصان، لا يحتمل الوقوف بصمت، يمكن الوقوف للتأمل ثم الانطلاق، لتجميل المشهد وتحديثه، لا سيّما المشهد الديمغرافي، حيث الثقافات واللغات والأعراق والديانات والمذاهب وأساليب الحياة، كل ذلك متعدّد ومتشعّب، والتعامل مع المشهد يتطلب روح الرسام الحذق المبتكر، ويتطلب روحاً رياضية متجدّدة ومتحرّكة، لأن المشهد ذاته متحرّك ومتطوّر، ومنفتح على عالم يسير بوتيرة سريعة جداً. وفي الواقع، التعامل مع المشهد هو تعامل مع أممٍ شتى، وطباع كثيرة، لهذا كان القانون هو المايسترو الذي يقود حركة الشعوب والثقافات والمعتقدات، فالكل سواسية أمامه، القانون هو الحصان الأصيل النقي العادل، والعربة يجملّها الرسام القائد كل يوم، وكأنها رحلة لاستكشاف المجتمعات البشرية والعالم. العيب ليس في وضع العربة أمام الحصان، العيب في عدم تغيير الوضعية والفكر والاستراتيجية.
العربة أمام الحصان!
مواضيع ذات صلة