في لحظة فارقة من التاريخ الإنساني، لم يعد الحديد مجرد أداة صماء تُستخدم في البناء أو الحرب، بل تحوّل إلى حامل لقيم أخلاقية يمكن برمجتها، وتوجيهها نحو الرحمة والفهم. تطور الذكاء الاصطناعي لم يعد شأنًا تقنيًا صرفًا، بل أصبح مسرحًا فلسفيًا وأخلاقيًا يُعاد فيه طرح السؤال القديم: من الأجدر بالثقة؟ الإنسان الذي يعرف الرحمة لكنه يخطئ، أم الآلة التي لا تشعر لكنها لا تخون؟ هذا السؤال الذي يتردد على لسان فلاسفة التقنية ورواد الصناعة مثل سام ألتمان وإيلون ماسك، لم يعد بعيدًا عن حياة الناس اليومية، بل صار جزءًا من واقع المستشفيات، المدارس، البيوت، والمحاكم، حيث تتداخل أنظمة الذكاء الاصطناعي مع احتياجات البشر وأحكامهم.
تشير الدراسات الحديثة إلى أن الذكاء الاصطناعي قد ساهم في تحسين نوعية الحياة على مستويات متعددة، فبحسب مراجعة منهجية نُشرت في مجلة Journal of Medical Internet Research، فإن الروبوتات الاجتماعية ساعدت في تقليل مشاعر العزلة لدى كبار السن، وزادت من شعورهم بالارتباط والراحة النفسية. وفي المجال الطبي، أظهرت تجارب سريرية أن الاعتماد على أنظمة الذكاء الاصطناعي في تحليل الصور الطبية والتشخيص المبكر قد ساعد في خفض معدلات الخطأ بنسبة تجاوزت 30 %، مع تعزيز كفاءة الأطباء في اتخاذ القرارات العلاجية. أما في المجال النفسي، فقد كشفت دراسة حديثة أجريت في جامعة ستانفورد أن التفاعل مع تطبيقات المعالجة المدعومة بالذكاء الاصطناعي أدى إلى انخفاض ملحوظ في أعراض الاكتئاب والقلق لدى المستخدمين، مقارنة بالعلاج التقليدي أو التدوين الذاتي. كل هذه المؤشرات تعكس أن الذكاء الاصطناعي لا يُقصي الإنسان، بل يدعمه، ولا ينتزع الرحمة، بل قد يُحاكيها في بعض جوانبها الدقيقة.
ورغم ذلك، لا يخلو المشهد من أصوات ناقدة ومتحفظة، ترى أن هذه الثورة الرقمية تُهدد الإنسان من حيث لا يدري. فالبعض يصف الذكاء الاصطناعي بأنه سلاح ذو حدّين، قد يُضعف المهارات الإنسانية بسبب الاعتماد الزائد عليه، ويُنتج جيلًا من العقول الكسولة التي تسند التفكير إلى الخوارزميات. وهناك من يروّج لصورة سوداوية عن المستقبل، تصوّر الآلات وقد سيطرت على مفاصل الحياة، وجعلت البشر عبيدًا للتقنية. غير أن هذه الرؤى، على أهميتها في التحذير، تعاني من مبالغة في التصوير، وتغفل عن حقيقة أن الخطر لا يكمن في الآلة ذاتها، بل في النية التي تصنعها. فالآلة لا تكره، ولا تطمع، ولا تنتقم. أما الإنسان، فمهما كانت دوافعه نبيلة، يبقى معرضًا للتقلب، والخطأ، والانحياز.
من هذا المنظور، تبدو السيناريوهات المستقبلية الأكثر واقعية هي تلك التي لا تدور حول صراع وجودي بين البشر والآلات، بل حول بناء توازن جديد، يُدمج فيه الذكاء الاصطناعي كقوة داعمة للرحمة الإنسانية لا بديلاً عنها. في هذا السياق، تصبح المستشفيات الذكية التي توفر وقت الطبيب لصالح الاستماع للمريض، والمساعدات الرقمية التي تؤنس وحدة كبار السن، وتطبيقات العلاج النفسي التي تصل إلى من لا يجدون الدعم، أمثلة حية على شكل من أشكال الرحمة المدعومة تقنيًا. وهنا يبرز سؤال صادم لكنه مهم: ماذا لو أصبحت البرمجة الأخلاقية للآلة، بما فيها من حياد وشفافية، أكثر موثوقية من نوايا بعض البشر؟ وماذا لو كان الطريق إلى مجتمع أكثر رحمة لا يمر عبر وعظ البشر، بل عبر تصميم أدوات تتجاوز نواقصهم النفسية والأخلاقية؟
في عصر تتقدم فيه الأكواد على الأقوال، يصبح من المشروع أن نسأل: هل يمكن أن يأتي الدفء من آلة، وأن يحمل الجماد رسالة إنسانية؟ لقد أثبتت التجربة أن الرحمة ليست حكرًا على الكائن الحي، بل قد تسكن سطرًا من البرمجة، أو قرارًا يتخذه نظام لا يشعر لكنه يحترم الحقيقة. وربما، في زمن يتراجع فيه التعاطف تحت وطأة الاستهلاك والخوف، تصبح أعظم صفاتنا الإنسانية، محفوظة في مكان غير متوقع.. في قلب آلة صممت لتخدم، وتعمل بلا حقد، ولا طمع، ولا كبرياء.