: آخر تحديث

دبلوماسية سعودية تصنع التوافق

3
3
3

يعدّ المؤتمرُ الدولي رفيعُ المستوى حول التسوية السَّلمية للقضية الفلسطينية، وتنفيذ حلّ الدولتين، الذي رأسته السعودية بالاشتراك مع فرنسا، وانعقد على مدى ثلاثة أيام في نيويورك، أحدَ أبرز التحركات السياسية الدولية تجاه القضية الفلسطينية منذ سنوات. وقد خلص المؤتمرُ إلى وثيقة تاريخية تضمنت 42 بنداً، هدفت إلى الدفع نحو مسار ملزم لتنفيذ حل الدولتين وتعزيز الاعتراف بدولة فلسطين. وقد جاء انعقاد هذا المؤتمر في توقيت بالغ الدقة، مع استمرار الحرب على غزة وتصاعد التوترات الإقليمية، وسط انسداد المسار التفاوضي منذ تعثر مفاوضات السلام الأخيرة.

ويكتسب هذا المؤتمر أهميته لا من مكانه وتوقيته فحسب؛ بل من طبيعة مخرجاته ونوعية الحضور فيه. فقد شهد المؤتمر مشاركة نحو 160 دولة، من بينها 125 دولة ومنظمة إقليمية أعلنت دعمها الصريح لخطة حل الدولتين ضمن إعلان نيويورك الختامي. وتميز التمثيل بطابعه الرفيع، حيث شارك وزراء خارجية، ونواب رؤساء دول، ومندوبون رسميون من مختلف أنحاء العالم. كما أصدرت أكثر من عشرين دولة بياناً مشتركاً باسم السعودية وفرنسا، بجانب الإعلانات التاريخية المتوالية عن عزم عدد من الدول الاعتراف بالدولة الفلسطينية، تجسيداً للشرعية الدولية ودعماً للسلام، ما يعكس توافقاً دولياً نادراً حول دعم مسار سياسي جاد للقضية الفلسطينية. وبالتالي، فنحن نتحدث عن إجماع دولي واسع، جمع على طاولة واحدة كبرى الدول والمنظمات الإقليمية، في تحالف متعدد الأطراف نادر الحدوث منذ سنوات. كما أن المؤتمر تميز بطابعه الواقعي العملي وتدرجه الزمني المدروس بعيداً عن أي شعارات، حيث قدم خريطة طريق شاملة تتعامل مع تعقيدات المرحلة على ثلاثة مستويات متكاملة: فعلى المدى القريب، ركز على التهدئة الإنسانية من خلال الدعوة إلى وقف فوري للعمليات العسكرية، وتسهيل دخول المساعدات عبر الأمم المتحدة والصليب الأحمر، إلى جانب معالجة ملف الأسرى. وعلى المدى المتوسط، أُعيد التأكيد على أهمية إطلاق خطة إعمار شاملة بقيادة عربية وإسلامية، تعيد بناء ما دمرته الحرب وتؤسس لاستقرار دائم. أما على المدى البعيد، فقد أولى المؤتمر أولوية لوضع الأسس السياسية والمؤسسية الكفيلة بتفعيل حل الدولتين، ضمن إطار زمني واضح ومسار تفاوضي قابل للتنفيذ. وبالتالي، كانت الوثيقة الختامية الصادرة عن المؤتمر تشكل إطاراً متكاملاً وقابلاً للتنفيذ من أجل تطبيق حل الدولتين، وتحقيق الأمن والسلم الدوليين، والإسهام في بناء مستقبل المنطقة وشعوبها. وهذا التأكيد على الإطار الزمني والآليات التنفيذية يجعل المؤتمر خطوة عملية، ويمنحه وزناً ميدانياً لم تتم رؤيته منذ اتفاق أوسلو.

إنَّ الوصول إلى هذا التوافق الدولي الواسع لم يكن ليتحقق لولا الدبلوماسية السعودية النشطة، التي لعبت دوراً محورياً منذ تأسيس التحالف الدولي لحل الدولتين في سبتمبر الماضي، وما تبعه من اجتماعات متابعة في الرياض وبروكسل وأوسلو والقاهرة والرباط، وصولاً إلى تنظيم المؤتمر رفيع المستوى في نيويورك. وقد مثل هذا المؤتمر ثمرة الحراك الدبلوماسي المتواصل، ورسخ الإرادة الدولية نحو حل عادل وشامل يقوم على أساس حل الدولتين. وبفضل جهودها المتواصلة، تمكنت المملكة من ردم الفجوات بين مختلف الأطراف، وتأسيس أرضية مشتركة مكنت من بلورة «إعلان نيويورك» بصيغته التوافقية. لقد أدارت الرياض هذا المسار بتوازن واحتراف جامعٍ بين التمسك بالمبادئ والثوابت من جهة، وبين فهم عميق لتعقيدات المشهد الدولي من جهة أخرى. ومن خلال هذا المؤتمر، أسهمت المملكة في تشكيل تكتل دولي جديد ضاغط باتجاه تسوية شاملة، بالتنسيق مع فرنسا وعدد من الدول الأوروبية والعربية، مما منح المؤتمر طابعاً عملياً يتجاوز البيانات الدبلوماسية إلى رؤية تنفيذية محددة. وقد تجلّى هذا الحراك في التزام واضح بخريطة طريق ضمن جدول زمني لا يتجاوز خمسة عشر شهراً، وهو ما يؤكد أن المملكة لا تكتفي بالدعوة إلى المبادئ؛ بل تسعى لصياغة آليات واقعية لتحقيقها. إن هذا الدور السعودي النشط والريادي، في وقت يتراجع فيه بعض القوى الكبرى عن التزاماته، أو ينحاز لطرف على حساب العدالة، يعكس نهجاً مستقلاً في السياسة الخارجية، قائماً على الشرعية الدولية، والتوازن، وتحقيق الأمن عبر العدل لا عبر القوة.

وأخيراً على أهمية هذا المؤتمر وما حمله من زخم سياسي ورسائل دولية واضحة، لكننا لن نسرف كثيراً في التفاؤل، ونعلم جيداً أن المرحلة المقبلة تنطوي على تحديات معقدة ترتبط بالانقسام الفلسطيني، ومواقف بعض الأطراف الفاعلة، خصوصاً الولايات المتحدة وإسرائيل. لكن مجرد انعقاد هذا المؤتمر في هذه اللحظة الحرجة، وبهذا المستوى الرفيع من التمثيل، يعكس تحولاً جديراً بالمتابعة، وربما بداية مسار مختلف يعيد وضع القضية الفلسطينية إلى صدارة الأجندة الدولية.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد