تعيش غزة حصارًا إعلاميًا خانقًا لا يقل قسوة عن الحصار العسكري، في الأسابيع الماضية، وقّع أكثر من "100" صحفي ومصور دولي على عريضة تطالب بالسماح الفوري والمستقل لهم بالدخول إلى القطاع، ليس بحثًا عن سبقٍ صحفي، بل عن حق الإنسانية في أن ترى وتعرف.
هذه المطالبة ليست ترفًا مهنيًا، بل امتداد لمبدأ راسخ في العمل الصحفي: أن الحق في نقل الحقيقة من قلب الميدان جزء من حق الشعوب في المعرفة، لكن في غزة، تُحاصر الكاميرات كما تُحاصر الأرواح، وتُنتقى المشاهد بعناية حتى لا تصل الصورة كاملة إلى الرأي العام العالمي.
التاريخ يشهد أن صورة واحدة قد تغيّر مجرى حرب، عام "1972"، التقط المصور “نيك أوت” صورة الطفلة الفيتنامية “كيم فوك” وهي تجري عارية بعد إصابتها بحروق النابالم، تلك اللقطة اخترقت جدران الإعلام والسياسة، وأجبرت واشنطن على إعادة النظر في حربها، وفي البوسنة، منتصف التسعينيات، كانت صور مجازر سربرنيتسا كافية لإشعال ضمير أوروبا، وفي لبنان عام 2006، مشهد الطفل المنتشل من تحت الأنقاض وصل إلى كبريات الصحف العالمية، رغم كل التحيزات السياسية.
أما في غزة، فالمأساة لا تقل فظاعة، لكن الصور التي تخرج من هناك، رغم قسوتها، لم تُحدث الأثر العالمي ذاته، ربما لأن آلة الدعاية المقابلة أكثر تنظيمًا، وربما لأن الإعلام العربي غائب عن دوره الفاعل، مكتفيًا بدور “الناقل” بدل أن يكون “المبادر”.
والأرقام هنا تتحدث عن فداحة المأساة منذ أكتوبر "2023" وحتى منتصف 2025، قُتل ما بين 200 إلى 232 صحفيًا وعاملًا في الإعلام، وفق تقارير لجنة حماية الصحفيين والاتحاد الدولي للصحفيين، كثير منهم استُهدف بشكل مباشر، وهذه ليست مجرد خسائر بشرية، بل محاولة ممنهجة لاغتيال الحقيقة، فحين تُكمم فوهات الكاميرات، يصبح الميدان ملكًا للرواية الأقوى سلاحًا، لا الأقوى حجةً.
اليوم، غزة تحتاج إلى أكثر من الغذاء والدواء، تحتاج إلى عينٍ تنقل للعالم ما يجري بلا تجميل ولا بتر، الكاميرا هنا ليست أداة إعلامية فحسب، بل سلاح أخلاقي قادر على كسر الحصار الأكبر: حصار الصمت!
السؤال الذي يؤرقني والكثير معي من العاملين بمجال الإعلام والأمنية التي تعتبر من وجهة نظري من الأحلام: متى ستولد الصورة التي تهز العالم كما هزته “فتاة فيتنام”؟ ربما تنتظر عدسةً حرة، عربية هذه المرة، تدخل (غزة) بلا قيود، وتنقل للعالم الحقيقة كما هي، لا كما يريدون لها أن تكون.