: آخر تحديث

سقوط «التيك توكرز»

2
2
2

علي عبيد الهاملي

غسل أموال، تجارة أعضاء بشرية، متاجرة بالمخدرات، وإساءة للأخلاق والقيم. هذه ليست عناوين أفلام سينمائية أو مقالات صحفية، بل جرائم حقيقية ارتُكبت تحت لافتة «المحتوى الترفيهي» الذي يتابعه الملايين.

كانت الشهرة قبل سنوات تحتاج موهبةً، وتحتاج سنواتٍ من الحفر في الصخر، أما اليوم فلم تعد تحتاج موهبةً، أو علماً، أو إنجازاً يخلّده الناس. كل ما تحتاجه هو «ترند» واحد يصبح الإنسان بعده مشهوراً، فقد أصبحت الشهرة في متناول كل من يجيد إثارة الضجيج، واستفزاز الفضول، وإلغاء العقول، وتجاوز الخطوط الحمراء لتقديم محتوى تافه.

الأدهى أن كثيراً من هؤلاء، الذين يسميهم البعض «مؤثّرين»، لم يكونوا قبل شهور سوى أصحاب مهن بسيطة، بالكاد تؤمّن لهم قوت يومهم، فإذا بهم يمتلكون الملايين، ويسكنون الفيلات الفخمة، ويقتنون السيارات الفارهة من أغلى وآخر الموديلات، في قفزة تثير الريبة أكثر مما تثير الإعجاب.

ما يبعث على الأسى أن هذه الظاهرة لم تأتِ من فراغ. فقد وجدت تربة خصبة في بيئة رقمية مفتوحة، وغياب وعي مجتمعي كاف لدى الجمهور، وبخاصة الفئات الشابة التي أصبحت تستهلك هذا المحتوى دون تمحيص.

والحقيقة أن مسؤولية مواجهة هذه الظاهرة لا تقع على عاتق السلطات وحدها، رغم أهمية دورها في فرض القانون وردع المخالفين، بل تمتد إلى المجتمع بكل مؤسساته.

لقد تحوّل كثير من مشاهير الإعلام الاجتماعي إلى مناشير تقطّع أوصال المجتمع، وأصبح معيار النجاح هو عدد المشاهدات، لا جودة الرسالة. وفي سباق محموم وراء «الترند»، تتم التضحية بالقيم، وتحل الألفاظ الخادشة للحياء محل اللغة الرصينة.

النماذج التي قدمها لنا نجوم «تيك توك» المقبوض عليهم لا تمثل المجتمع المصري الذي عرفناه على مدى عقود من الزمن؛ مجتمع طه حسين وتوفيق الحكيم ونجيب محفوظ وفاروق الباز وأحمد زويل وأم كلثوم وعبدالوهاب، وغيرهم من نجوم العلم والأدب والفن الراقي، وليس مجتمع نجوم «تيك توك» الذين أعف عن ذكر أسمائهم حفاظاً على ذائقتكم السمعية.

لذلك أعتقد بأن تدخل السلطات المصرية لتصحيح الصورة وتنظيف الفضاء الإلكتروني كان ضرورياً، وإن كان قد تأخر قليلاً، فأن تأتي متأخراً خير من ألّا تأتي أبداً.

إن ما كشفته الحملة المصرية يمثل جرس إنذار لكل المجتمعات العربية، التي لا تخلو من نماذج سيئة أيضاً، لأن هذه الظاهرة لا تعرف حدوداً جغرافية. وما لم يبادر الجميع إلى وضع استراتيجيات شاملة للمواجهة، فسوف نجد أنفسنا أمام جيل يقيس قيمته بعدد المتابعين، ويبحث عن الشهرة بأي ثمن.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد