: آخر تحديث

بلاغة المقاومة في قصيدة حميد سعيد

2
3
3

يُعدّ حميد سعيد من أبرز الأصوات الشعرية في المشهد الثقافي العربي المعاصر، وُلد في العراق عام 1941، وتقلّد مناصب ثقافية وأدبية بارزة، منها رئاسة اتحاد الأدباء العراقيين. وامتد عطاؤه الإبداعي والسياسي لأكثر من خمسة عقود. عُرف بشعره الذي يجمع بين الرؤية الجمالية والوعي القومي، وبتجربته المتفردة في مقاربة القضايا الوطنية والإنسانية، وعلى رأسها القضية الفلسطينية.

أصدر حميد سعيد خمسة عشر ديوانًا شعريًا، تميزت بالتنوع الفني وعمق المضمون، وتحتل فلسطين، لا سيما غزة، مكانةً مركزية في خطابه الشعري، حيث لا تظهر بوصفها رقعة جغرافية تحت الاحتلال، بل كرمز أسطوري للصمود والبقاء وإعادة التكوّن.

في قصيدته "الموت في غزة"، لا يكتفي حميد سعيد بتأريخ اللحظة الفلسطينية بل يصوغ منها معمارًا شعريًا يتجاوز الرثاء إلى الفعل الجمالي المقاوم، حيث تتحول القصيدة إلى كائن لغوي مشحون بالحياة، تقاوم من داخله الكلمات، كما يقاوم الفلسطيني من داخله الجرح.

غزة في هذا النص ليست مكانًا، بل حالة رمزية ممتدة؛ ليست مجرد جغرافيا محاصرة، بل تجسيد لثنائية الحياة والموت، الأمل واليأس، المرأة والأرض، الدم والبعث. في كل بيت، يستحضر حميد سعيد قوة اللغة الشعرية بوصفها وسيلة لفهم الوجود واستعادة المعنى، في عالم فقد اتزانه الأخلاقي.

تتجلى قوة القصيدة في طريقة تشكيلها للرموز واستثمارها الدلالي. فافتتاحية النص بـ (للموت أجنحة) ليست فقط استعارة مرئية، بل بناءٌ فلسفي يمهّد لمعركة داخل النص: معركة ضد التصالح مع الموت. الموت هنا ليس حدثًا، بل "فاعل"، يتجوّل، يختار، ويقتنص، كما لو كان طاغية. وهذه الأجنحة ليست للرحمة، بل أدوات للقسوة والعبور المفاجئ إلى العدم.

ثمّة تطور درامي في الصورة؛ فالموت لا يُصوَّر كقَدَر، بل كقوة تتسلل إلى يوميات الحياة، تختار صغارًا يكبرون، وصبايا حالمات، وكأنها تسرق من المدينة إمكان المستقبل. لا يُمارس الموت وظيفته البيولوجية فقط، بل يتحوّل إلى أداة استعمارية تنفي احتمالية الحياة.

يحمل النص تأنيثًا واعيًا لغزة. تظهر كأنثى "حصان"، رمزًا للقوة، للخصب، للحماية، وللتمرّد. يخلق الشاعر من هذه الأنثى سردية مضادة لخطاب الضعف. فهي كائنٌ مقاوم، أنثى-وطن، أنثى-ذاكرة. وتحضر المرأة في القصيدة بوصفها مركزًا للمعنى، حاملة للجمر، للغضب، وللخصوبة المحتملة، تمامًا كما تحضر الأرض ككائن أنثوي يتعرض للاغتصاب لكنه لا يفقد خصوبته.

يمثل الرحم في هذه القصيدة موضعًا للصراع الميتافيزيقي بين الحياة والموت، بين الاحتراق والانبعاث. (في الأرحام، ما زال الجمر...) ليست صورة شعرية فحسب، بل عقيدة وجودية بأن الحياة تتوالد من رحم الألم.

اللغة في هذه القصيدة لا تصف الموت بل تعارضه. بلاغة النص هي بلاغة رفض، إذ تتحول القصيدة من تأبين إلى مقاومة لغوية وفكرية. وهذا يتجلى في العبارة المركزية التي يُكرّرها الشاعر (للموت أجنحة)، كأنها لازمة جنائزية تُحوّل النص إلى طقس شعري، ومقاومة داخلية ضد الاعتياد على الفقد.

ومع أن المأساة حاضرة بكل قسوتها، إلا أن الشاعر يرفض الانكسار. في أحد أكثر المقاطع دلالة يقول: (الموت سطوته، لكن الحياة أقوى إذا اشتبكا). هذه العبارة تختصر جوهر القصيدة: نحن في ساحة اشتباك لا تنتهي، لكن الكلمة – الحياة – أشد بقاءً.

لا تغيب البصمة السياسية عن القصيدة. على العكس، فهناك نقد موجّه ضمنيًا للعالم الصامت، للتواطؤ، وربما لتخاذل الداخل. يتساءل الشاعر: (من فتح الطريق لهذا الفجور؟). هذا ليس سؤالًا بلاغيًا فقط، بل إدانة مواربة للخطاب الرسمي العربي، وللسياسات المتقاعسة.

وفي قوله: (من كذبوا عليكِ، سيكذبون عليكِ ثانية)، نقرأ إحساسًا بالخيانة المتكررة، بما يُشكّل نبرة أخلاقية غاضبة في قلب النص الشعري. هذا الصوت، وإن لم يكن شعاريًا، إلا أنه يُعبّر عن موقف نقدي تجاه من أداروا ظهورهم لغزة.

تتجنب القصيدة التقفية المباشرة أو الإيقاع المنتظم، وتلجأ إلى إيقاع داخلي ناتج عن التكرار والتوازي اللفظي والتكثيف الدلالي. كما أنّ السجع المعنوي يبرز أكثر من اللفظي، فيعكس وحدة شعورية تهيمن على النص، لا مجرد بناء شكلي.

هذا الأسلوب يتّسق مع حمولة النص العاطفية، ويمنح القصيدة طاقة سردية، وكأنها تُقرأ وتُرى وتُسمع في آن. النص كأنه مشهد سينمائي يتنقل بين "شواهد الموتى"، "البيوت المختفية"، و"الخبز الغائب"، ليعيد تمثيل الكارثة بلغة مغايرة عن السرد الإخباري.

في نهاية القصيدة، تظهر وظيفة الشعر كتوثيق غير خاضع للسلطة. يقول الشاعر: (إنهم يكتبون التاريخ بلغة لا تعرفكِ، وأنتِ تبقين في ما لا يقولونه). بهذا، يُمنح الشعر وظيفة بديلة: توثيق الوجدان، لا الحدث. تسجيل الألم من الداخل، لا بالحياد المهني، بل بالانحياز الكامل للإنسان المقهور.

إنها القصيدة التي ترفض أن تكون صدى للخبر، وتُصرّ على أن تكون جزءًا من الحدث. فالشاعر هنا لا ينقل المأساة، بل يشارك في صنع خطاب يتجاوز الصمت والحياد.

قصيدة " الموت في غزة" هي أكثر من نص شعري؛ إنها مانيفستو وجداني، سياسي، رمزي، يُعيد تأطير مأساة شعب، لا بلغة الرثاء السلبي، بل بلغةٍ تُفجّر الذاكرة وتؤسس لجماليات المقاومة. إنها خطاب ضد النسيان، ضد الموت، ضد اللغة الفارغة.

في هذه القصيدة، يتقدّم الشعر إلى الأمام ليُمسك بزمام السرد، ويُصبح أداة مقاومة، ومرآة لكرامة مدينة لم تخضع. غزة هنا ليست مجرد مكان على الخريطة، بل "امرأة حصان" تركض في أفق النار، وتحمل في رحمها جمر العودة، وتستأنف دورتها الأسطورية في الحياة.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.