هناك عرف معهود على أن في سوريا ثمة أكثرية سنية، وأقليات علوية وكردية ومسيحية ودرزية وإسماعيلية ومرشدية، وغيرها من المكونات الأقلية الأخرى. لكن المطّلع على طبيعة الحياة في هذا البلد على مستوياته المختلفة: الثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، يجد أن هذه الأقليات تكوّن أكثرية اعتبارية في نمط عيشها وثقافتها وعاداتها ورؤيتها المدنية المعاصرة للحياة، في مقابل أقلية اعتبارية تعيشها الأكثرية السنية، في طريقة عيشها وفلسفة حياتها. نعم ثمة نمط مشترك بين تلك الأقليات في فلسفة حياتها، نمطٌ يكاد يكون واحداً في أسلوب العيش وفقه المعاصرة. في حين أننا نجد أنّ الأكثريّة السنية تعيش أنماطاً وأساليب حياتية على الأصعدة الاجتماعية والثقافية والاقتصادية ليست واحدة، وكثير منها يجنح إلى تقليد النمط المشترك الذي تعيشه الأقليات.
هنا لا نتحدث عن الشكل الظاهري للحياة في مستوياتها الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والفكرية، وإنما نقصد الأساس الجوهري لفلسفة الحياة؛ فجميع المكونات تبني جوهر حياتها على أساس المعاصرة، بينما تبني الأكثريةُ السنية، بالرغم من تبايناتها الشكلية، جوهرَ حياتها على الماضوية التقليدية المحافظة.
ومن يدقق في الأنساق الحياتية يجد أن الأقليات تكوّن نسيجاً أكثروياً موحداً أو متشابهاً، ويجد أن ثمة ازدواجية عند كثيرين من الأكثرية السنية في نزوعها نحو نمط الحياة الأقلياتية.
والأكثرية تحتاج دوماً إلى سلطة سياسية ودعم خارجي في مواجهة فلسفة الحياة الأقلياتية وإلا فإنها ستكون أقلية اعتبارية، ولا قِبل لها بمواجهة فلسفة الحياة التي تعيشها باقي مكونات الشعب السوري. ولهذا نجد اليوم محاولة عربية (قطرية خاصة) لتعويم فلسفة الحياة السنية، وهذا على خلاف ما يبدو أنه صراع سياسي يحاول فيه كل طرف دعم الطرف الذي يمثله أو يحالفه (وإن كان الأمر لا يخلو من هذا القبيل). فكثير من الدول العربية الضالعة اليوم في الملف السوري تحاول تعويم الأكثرية السنية، خوفاً من ميل الأقليات -معظمها- نحو السياسة الإيرانية أو لغايات سياسية أخرى، وهذا يعد جهلاً معيباً بواقع الحال وطبيعة الرؤية الفلسفية الحياتية للمكونات الأقلياتية السورية. ومردّ هذا الأمر أن الدول العربية التي تدير الصراع في سوريا تعتمد على رؤية ارتجالية آنية تعود لولاة الأمر وساسته، وليس لها مؤسسات بحثية وعلمية وسياسية واجتماعية وثقافية تُسند إليها إدارة هذا الملف لغايات استراتيجية بعيدة، لا آنية مرتجلة مبنية على نظرة سطحية ومغالطات رؤيوية ساذجة أفقاً ومنظوراً.
يعتقد اليوم أغلبُ – إن لم نقل كلّ – المراقبين للوضع السوري ولملفه السياسي أنّ الأقليات تحتاج إلى حماية، لكن التمعّن في الحياة السورية يقود إلى أنّ الأكثرية هي التي تحتاج حماية وتعويماً، لأنّ فلسفة حياتها غير قادرة على مواجهة فلسفة الحياة الأقلياتية؛ وعليه، فالإشكال ليس صراعاً سياسياً على الحكم – وإن كان يتمظهر بهذا الزي السياسي – بل هو صراع اعتباري على فلسفة الحياة.
اليوم ثمة هوة سحيقة وفجوة عريضة بين المكونات الأقلياتية السورية وحاضنتها العربية، جراء السياسات الارتجالية غير المدروسة، فجوة سيدفع العرب ثمناً باهظاً لردمها، وهوة تحتاج حفر خليج جديد لملئها.