: آخر تحديث

إسرائيل تعيد ترتيب المشهد الداخلي لحركة حماس

5
5
6

حين تصل الحركات الأيديولوجية المتطرفة إلى أفق مسدود في إدارة أزماتها، تبدأ محاولات إعادة تشكيل واجهتها القيادية؛ إما عبر اغتيالات تنفذها أطراف خارجية، أو تصفيات داخلية، لفتح هامش جديد يسمح بإنتاج مقاربات سياسية بديلة في ظل جمود المواقف أو تعثر التسويات. فالاغتيالات، في معظم الحالات، ليست عشوائية، بل أدوات مدروسة لإضعاف البنية التنظيمية، أو لتقليص الشعبية والمكانة السياسية والعسكرية.

اغتيال حسن البنا منتصف القرن الماضي فجّر صراعًا داخليًا في جماعة الإخوان، قاده عبد الرحمن السندي، رئيس التنظيم الخاص، ضد المرشد حسن الهضيبي. وقد عزفت أجهزة الأمن المصرية، بتوجيه من جمال عبدالناصر، على أوتار هذا الصراع وساهمت في تغذيته لإرهاق الطرفين، دون أن تدرك أن النتيجة كانت ولادة تيار أكثر تطرفًا بقيادة سيد قطب، الذي أُعدم لاحقًا، لتفقد الجماعة بعدها قدرتها على استعادة مكانة قيادية تليق بتاريخ المنطقة السياسي.

أما في أفغانستان، يمكن قياس مسار الأحداث بعد انسحاب السوفييت بحادثين مفصليين: اغتيال عبدالله عزام، ما فتح الطريق أمام أسامة بن لادن لتعزيز نفوذه في الأوساط الجهادية، واغتيال أحمد شاه مسعود على يد عناصر من القاعدة، تمهيدًا لهيمنة طالبان بقيادة الملا عمر، وإقصاء خصم قوي قبل هجمات 11 أيلول (سبتمبر) 2001، التي كان مسعود قد حذر منها خلال زيارته لباريس قبل أشهر من مقتله. ولو بقي على قيد الحياة، لما عادت طالبان اليوم لحكم كابول.

في عام 2008، تم اغتيال عماد مغنية مباشرة بعد اجتماع مع قاسم سليماني، في عملية مشتركة بين المخابرات الأميركية والموساد الإسرائيلي، مما عطّل الحزب طويلًا عن خوض مواجهة جديدة ضد إسرائيل. واستمرت الحلقة باغتيال قاسم سليماني، لتكون البداية الفعلية لنهاية المحور الإيراني في المنطقة، ثم اكتملت باغتيال حسن نصر الله وقيادات الهرم التنظيمي للحزب، مما أعاد تشكيل وجه حزب الله الجديد.

هذه الاغتيالات، التي شكلت سلسلة مترابطة، تكشف أنها ليست أفعالًا انتقامية، بل حلقات في مشروع إستراتيجي طويل المدى. الأمر نفسه ينطبق على الاغتيالات التي طالت قيادات الحرس الثوري الإيراني وحزب الله في سوريا، والتي ساهمت في إضعاف المحور وإخراج دمشق من معادلة الصراع، وصولًا إلى إعادة رسم خريطة سوريا.

فلسطينيًا، أدى اغتيال خليل الوزير وصلاح خلف إلى صعود تيار المفاوضات الذي قاد إلى اتفاق أوسلو، في استدارة كاملة عن نهج الكفاح المسلح إلى نهج الكفاح السلمي، خاصة بعد نجاح انتفاضة الحجارة عام 1988 في حصد مكاسب سياسية جعلت الطرفين يجلسان على طاولة أوسلو التفاوضية. قبل أن تنهي إسرائيل كل ذلك باغتيال الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات من خلال عملية دقيقة ومعقدة دشنت بها حقبة جديدة. وسعت منظومة اليمين الحاكم لتكريس أدوات مشروعها السياسي، الذي كان من مراحله التخلص من قيادات حماس التقليدية أمثال أحمد ياسين وعبدالعزيز الرنتيسي، لفسح المجال أمام صعود قيادات جديدة داخل حماس، والانسحاب من قطاع غزة كمقدمة لدعم انقلاب حماس لاحقًا، ومد سلطتها بأسباب تُبقي فصل القطاع عن الضفة الغربية، للهروب من تنفيذ حل الدولتين.

الصورة لا تكتمل إلا بمرور الزمن، وهو ما يجب طرحه مع اقتراب الذكرى الثانية للسابع من تشرين الأول (أكتوبر)، خاصَّة بعد أن نالت إسرائيل وجيشها من ستين قياديًا في حماس، وبالتزامن مع تصريحين مهمين: الأول لبنيامين نتنياهو، بأن "لم يتبقَّ أحد من قيادات حماس في غزة"، والثاني لوزير دفاعه يسرائيل كاتس، بأن إسرائيل تتجه إلى تنفيذ اغتيالات بحق قيادات حماس في الخارج.

سير سلسلة الاغتيالات التي طالت صفوف حماس، له انعكاس على مختلف التيارات المتصارعة على رئاسة الحركة، ما يدل على اتساع فجوة الخلافات بينها، خاصة مع ازدياد تأثير تيار زاهر جبارين داخل الحركة وتحالفه مع تيار خالد مشعل، وتراجع تيار خليل الحية لعوامل عديدة، أهمها ضعف المحور الإيراني المؤيد له، وخسارة تأييد قيادات وازنة حليفة له في غزة من تيار (يحي السنوار ومحمد الضيف) بسبب عمليات الاغتيال. وهذا يضع الحركة أمام واقع لا مفر منه، يتمثل في عدم قدرة عبدالله حداد، الباقي الوحيد من قادة الصف الأول في القطاع – إن بقي على قيد الحياة – على فرض سيطرته على بقايا الدوائر التنظيمية للحركة، مما ينذر بظهور أوجه جديدة تبحث عن دعم من قيادات الخارج لتثبيت وجودها في المشهد الداخلي لحماس، وهو ما قد يفتح باب الصدام المسلح بينها.

وبعد ما جرى في سوريا ولبنان، لا يمكن استبعاد سيناريو أن إسرائيل تسعى لتشكيل "وجه حماس الجديد"، وربما إدارة الصراع بين تياراتها بعد الحرب، بما يخدم أهدافًا إستراتيجية أوسع. فحتى لو كان الهدف المعلن هو القضاء على الحركة، فإنَّ موجة الاعترافات الدولية بالدولة الفلسطينية قد تدفع حكومة نتنياهو للإبقاء على نسخة ضعيفة من حماس في غزة، لضمان استمرار الانقسام الفلسطيني وإجهاض أي فرصة حقيقية لقيام الدولة الفلسطينية.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.