: آخر تحديث

العراق واللعنة اليوغسلافية: حين يتكرر الدرس الذي تجاهله العالم

5
4
4

تفكك يوغسلافيا لم يكن حادثاً عابراً ولا مؤامرة في ليل مظلم، بل نتيجة تراكم طويل لعوامل داخلية وخارجية فجّرت البنية الهشة للدولة. دستور فدرالي مثقّب بالثغرات منح الجمهوريات والأقاليم حق النقض حتى صار اتخاذ القرار أشبه بالانتحار البطيء. وحين رحل الرئيس جوزيف بروز تيتو عام 1980، فرغت البلاد من زعيمها الجامع، فانطلقت سباقات النفوذ بين القوميات. ترافق ذلك مع أزمة ديون خانقة وتضخم متسارع وسياسات تقشف قاسية حوّلت الحياة اليومية إلى معاناة، وجعلت من الخطاب الشعبوي وسيلة البقاء الوحيدة للنخب. الإعلام الرسمي لم يكن ناقلاً للخبر بل مصنعاً للخوف، إذ ضخَّ قصصاً مفبركة عن تهديدات الأقليات، وصنع وحوشاً داخلية لتبرير العنف. أجهزة الأمن بدورها أطلقت ميليشيات بالوكالة مثل (نمور أركان) لتؤدي أدواراً قذرة لا يريد النظام أن يُتهم بها مباشرة.

المجتمع الدولي لم يكن بريئاً، فقد سارعت ألمانيا للاعتراف باستقلال كرواتيا وسلوفينيا قبل أن توجد ترتيبات أمنية حقيقية، فأطلقت سلسلة تفاعلات أشعلت الحرب. جاء بعدها قرار مجلس الأمن بحظر شامل على السلاح ليضاعف المأساة، إذ مكّن الجيش اليوغسلافي المتخم بالعتاد، وترك البوسنيين عزّلاً يواجهون الإبادة. النتيجة أكثر من 130 ألف قتيل، ملايين النازحين، وحروب متتابعة انتهت باتفاق دايتون الذي أوقف النزيف لكنه جمّد دستوراً مبنياً على المحاصصة الإثنية، أي أنه قنّن خطوط الحرب بدل أن يمحوها.

اليوم، بعد عقود طويلة، نرى العالم يكرر الأخطاء نفسها في قارات مختلفة. في إفريقيا، المثال الأوضح هو إثيوبيا، حيث الفيدرالية الإثنية تحولت إلى منصة صراع. حرب تيغراي بين 2020 و2022 لم تكن سوى البداية، إذ ما زالت النزاعات في أمهرة وأوروميا تهدد وحدة البلاد. الاقتصاد يتهاوى تحت ثقل التضخم ونقص الغذاء، والجيران يتدخلون، وإعلام الكراهية يعمّق الشقاق. لعنة البلقنة حاضرة هناك بكل تفاصيلها.

في الأميركيتين، يطلّ نموذج بوليفيا كنسخة لاتينية من الدرس نفسه. التناقض بين المرتفعات الفقيرة الموالية لليسار والسواحل الغنية، خصوصاً إقليم سانتا كروز، صنع تاريخاً من النزعات الانفصالية. استفتاءات الاستقلال السابقة والإضرابات الواسعة عام 2022 أظهرت أن الفيدرالية الهشة يمكن أن تتحول إلى طلاق سياسي في أي لحظة، خاصَّة مع اقتصاد قائم على الغاز والليثيوم الذي يثير مطامع الخارج.

أما في آسيا، فالمثال الأكثر وضوحاً هو ميانمار بعد انقلاب 2021، حيث تفكك المركز تماماً، وصارت الجماعات الإثنية تدير أراضيها بسلطة الأمر الواقع، بينما يسعى الجيش إلى انتخابات شكلية تفتقر إلى الشرعية. التدخلات الدولية المنقسمة بين داعم ومعارض، والاقتصاد الغارق في العزلة، يعيدان إلى الأذهان لحظة يوغسلافية جديدة لكن بملامح آسيوية.

وفي أوروبا، نجد مولدوفا العالقة بين شد غربي وروسي، مع إقليم ترانسنيستريا المنفصل بحكم الأمر الواقع وغاغاوزيا المتمردة سياسياً. أي هزة إقليمية قد تجعلها نسخة مصغرة من البلقان.

هذه النماذج، على اختلاف جغرافيتها، تؤكد أن البلقنة ليست قدراً مرتبطاً بالبوسنة أو كرواتيا فقط، بل آلية يمكن أن تتكرر كلما اجتمعت ثلاثة عناصر: دستور يفتت السلطة بدل أن يوحدها، اقتصاد مأزوم يغذي الانقسام بدل أن يخففه، وإعلام تعبوي يشيطن الداخل ويستقوي بالخارج.

العراق يقف اليوم عند مفترق طرق خطير، تتجاذبه قوى الداخل وتتنازعه قوى الخارج. لعنة يوغسلافيا تلوح في الأفق، لا كتاريخ بعيد بل كمرآة لما يمكن أن يحدث إن استمرت المعادلة نفسها. فالدستور الذي صيغ بعد 2003، وإن كان يقدّم نفسه كضمان للتنوع، إلا أنه في الواقع فتح الباب واسعاً أمام نظام محاصصة طائفي وإثني جعل الدولة شظايا متنافسة. الوزارات تحولت إلى حصص موزعة على كتل، لا مؤسسات تخدم وطناً. ومع غياب إصلاح حقيقي، صار الانتماء إلى الطائفة أو الحزب أو الإقليم أهم من الانتماء إلى العراق ذاته.

الاقتصاد الريعي النفطي، بدل أن يكون نعمة، أصبح لعنة تُكرّس الفساد وتغذي الزبائنية. عائدات النفط الضخمة لا توزع بعدالة، بل تذهب إلى شبكات حزبية ومصالح شخصية، فيما تُترك المحافظات مهمّشة وغارقة في البطالة وسوء الخدمات. هذا التفاوت، كما كان الحال في يوغسلافيا بين الجمهوريات الغنية والفقيرة، يشعل الغضب الشعبي ويحوّله إلى وقود للانقسام.

الإعلام، الذي يفترض أن يكون فضاء وطنياً جامعاً، صار انعكاساً للتشرذم. قنوات وصحف تابعة للأحزاب والطوائف تبث خطاباً يعمّق الشرخ أكثر مما يعالجه. لا صوت جامع، بل جوقة متنافرة تتنازع على الذاكرة والتأويل. هذا الانقسام الإعلامي شبيه بما جرى في البلقان حين تحولت النشرات إلى أبواق شيطنة متبادلة.

وفوق كل ذلك، تقف الميليشيات المسلحة كالدولة الموازية، تتقدم حين تتراجع مؤسسات الدولة. هذه المجموعات لا تكتفي بالهيمنة العسكرية، بل تسعى إلى النفوذ السياسي والاقتصادي، فتتحول إلى قوة أمر واقع تضعف شرعية الحكومة. وحين تمتزج الميليشيات بالسياسة، يصبح تفكك الدولة مسألة وقت أكثر من كونه احتمالاً بعيداً.

على خط التماس الدولي، العراق ليس معزولاً. الولايات المتحدة تريد الحفاظ على وجود استراتيجي، إيران تعزز نفوذها عبر فصائل مسلحة، تركيا ترصد الشمال بعيون متحفزة، والخليج يسعى لخلق توازن عبر الاستثمارات والدعم السياسي. هذا التشابك يجعل العراق ساحة صراع إقليمي دولي يشبه ما عاشته يوغسلافيا حين تحولت إلى ملعب مفتوح للقوى الأوروبية والدولية.

إذا لم يتحرك العراقيون اليوم، فإن السيناريوهات المحتملة قد تكون على ثلاثة مسارات:

التفكك التدريجي: حيث تتحول الأقاليم والمحافظات إلى سلطات مستقلة بحكم الأمر الواقع، حتى لو لم تُعلن الانفصال رسمياً.

الفيدرالية الناجحة: إذا جرى إصلاح الدستور على أساس المواطنة وتوزيع عادل للثروة، يمكن أن يتحول التنوع إلى مصدر قوة بدل أن يكون قنبلة مؤجلة.

المركزية المعدّلة: حيث تعود الدولة إلى قبضة مركز قوي يفرض سيادته، لكن هذا السيناريو يحتاج إلى توافق وطني صلب لا يمكن أن يُبنى بالقوة وحدها.

الدرس اليوغسلافي يقول إن الانتظار قاتل، وإن تجاهل المؤشرات يفتح الباب أمام لحظة انفجار شاملة. العراق يملك فرصة ليكتب استثناءً تاريخياً، لكنه يحتاج إلى شجاعة مواجهة الذات: دستور يعيد الاعتبار للمواطنة، اقتصاد يوزع الثروة بعدالة، إعلام وطني يواجه خطاب الكراهية، وسلاح بيد الدولة لا بيد الفصائل.

إن لم يحدث ذلك، فإن بغداد قد تصبح سراييفو جديدة، ويُكتب في التاريخ: من البلقان إلى بلاد الرافدين… دماء لم تتوقف لأن العالم لم يتعلم شيئاً.

إنَّ مأساة سراييفو وسربرنيتسا كانت جرس إنذار للعالم، لكن يبدو أن الذاكرة قصيرة. اليوم، العراق يقف على منعطف حاسم: إما أن يتعلم من الماضي ويكتب استثناءً، أو يعيد إنتاج المأساة ذاتها، ليكون عنوان كتاب واحد: من البلقان إلى الرافدين… حين يتجاهل العالم دروسه، يتكرر التاريخ بدماء جديدة.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.