: آخر تحديث

السوداني: زعيم التوازنات في "العراق المضطرب"

5
3
4

من يتابع حركة رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني، في الداخل والخارج، يلاحظ أنّ الرجل يسير على خيط رفيع بين قوى متناقضة، لكنّه يحاول أن يحافظ على توازنه دون أن يسقط. ففي بلد أنهكته الانقسامات المذهبية والسياسية، وفتكت به الحروب والصراعات، بات من البديهي أنّ أي رئيس الحكومة أن ينحاز كلياً إلى مصلحة بلاده وليس لمحور ضد آخر.

السوداني فهم المعادلة منذ اللحظة الأولى: لا يمكن مواجهة كل القوى دفعة واحدة، ولا يمكن الخضوع لها بالكامل، بل يجب البحث عن مساحة مشتركة تحفظ رصيده الشعبي، وتمنحه شرعية الاستمرار... وهذا ما حصل.

على الصعيد الداخلي، سعى السوداني إلى تقديم نفسه كحَكَم أكثر منه لاعب. فهو يدرك أنّ الشارع العراقي لم يعد يثق بالشعارات الطائفية ولا بالوعود الشعبوية التي لا تتحقق، بل يطالب بخدمات أساسية: كهرباء، ماء، فرص عمل، واستقرار أمني. ولذلك حاول أن يضع ملف الخدمات في واجهة عمله، وأن يظهر كمن يعمل بصمت بعيداً عن المزايدات السياسية. صحيح أنّ العوائق كبيرة، وأن الفساد قديم ومتجذّر في مؤسسات الدولة، لكن مجرّد أن يُعيد الناس الإحساس بأنّ ثمّة من يضع مصلحتهم في الاعتبار، فهذا بحد ذاته مكسب لا يُستهان به في بلد كالعراق.

في السياسة، مارس السوداني سياسة "الخطوة المدروسة". لم يواجه القوى المسلحة الشيعية مباشرة، ولم ينقلب على التوافقات التي أتت به إلى رئاسة الحكومة، لكنّه في الوقت نفسه لم يترك الدولة أسيرة تلك القوى. أعطى إشارات متكررة على أنّ القرار الأمني يجب أن يكون بيد المؤسسات الرسمية، وفتح المجال أمام الجيش والشرطة ليأخذوا زمام المبادرة في بعض الملفات الحساسة. هذه المعادلة سمحت له بأن يحافظ على علاقة مقبولة مع "الحشد الشعبي"، وفي الوقت نفسه يقدّم نفسه كزعيم يريد أن يبني "دولة مؤسسات" لا "دولة ميليشيات".

أمّا في الخارج، فالسوداني يجيد لعبة التوازن بين واشنطن وطهران. العراق لا يمكنه أن ينفصل عن إيران التي تمسك بمفاصل اقتصادية وأمنية فيه، ولا يمكنه أن يخسر الغطاء الأميركي الذي يمنحه شرعية دولية ويؤمّن له دعماً مالياً وسياسياً. السوداني استثمر هذه الثنائية ليطرح نفسه كجسر لا كساحة صراع. فهو يفاوض الأميركيين على تقليص وجود قواتهم العسكرية تدريجياً من دون قطيعة، وفي الوقت نفسه يطمئن الإيرانيين بأن مصالحهم لن تُستهدف من بغداد. هذه السياسة أعطت العراق فسحة من الاستقرار، وسمحت له بالانفتاح على محيطه العربي من جديد، عبر قنوات اقتصادية ودبلوماسية واعدة.

لكنّ التوازن ليس مهمة سهلة، بل هو أقرب إلى السير على الحبل في ساحة مكشوفة. كل خطأ في الحساب قد يكلّف السوداني كثيراً. خصومه يترصدون أي انزلاق ليُسقطوا صورته المتوازنة ويُظهروه إما كرهينة لإيران أو كأداة لواشنطن. ومع ذلك، يظل الرجل حتى الآن قادراً على تمرير اللحظات الحرجة، وعلى تصوير نفسه كزعيم يبحث عن مصلحة العراق أولاً.

إنّ ما يميّز السوداني ليس أنّه أحدث انقلاباً في الواقع العراقي، فهذا أمر مستحيل في المدى القصير، بل أنّه استطاع أن يفرض إيقاعاً مختلفاً: خطاب أقل ضجيجاً وأكثر تركيزاً، أفعال محسوبة، رسائل هادئة للداخل والخارج. هذه السياسة قد لا تصنع بطولات آنية، لكنّها تبني رصيداً بطيئاً ومتيناً. العراقيون سيتذكرون في المستقبل تفاصيل إنجازاته، لكنّهم سيتذكرون كذلك أنّ فترة حكمه شهدت اضطرابات أقلّ، وأن الدولة حاولت أن تعود إلى دورها الطبيعي.

بهذا المعنى، فإنّ السوداني ليس مجرد رئيس وزراء عابر، بل تجربة في "فن التوازن" وسط بحر هائج. وإن نجح في الاستمرار بهذا النهج، فقد يفتح الباب أمام إعادة تعريف دور العراق في المنطقة: دولة لا تكون ساحة صراع بل مساحة لقاء، ولا تكون مجرد تابع بل لاعب يعرف كيف يحافظ على توازنه دون أن يسقط.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.