نسترجع شيئاً من ماضٍ لا يصدأ، وذكرياتٍ ندّية ما زالت عالقة في الروح كأنها حدثت بالأمس القريب. هناك، في رحاب ولاية لويزيانا الأميركية، عشنا صيفاً مختلفاً لا يشبه سواه. كان ذلك عام 2006، حين كانت الألفة تُظلِّل الأيام بصفائها، وتمنح اللحظات طابعاً من الدفء يصعب نسيانه.
في تلك الربوع، اجتمعنا على محبّة صافية برفقة ثلة من الأصدقاء الأعزّاء، الذين أضاءوا بوجودهم جمال المشهد وصدق المعنى: الرائع محمود القصير، والنبيل عطية يوسف طالب، والخلوق محمود حماد، والمرح مأمون أبو جودة "أبو العبد"، والودود جمال الخوالدة، والصديق خالد قاسم، والأخ عبد الحميد حمّاد، ورفيق الدرب أبو الأمير، وطيب القلب عبدالله الجبر "أبو أحمد"، والصديق جمال السلحوت، عصام الشافعي "أبو عبد الله"، وغيرهم كثير من الوجوه الطيبة التي سعدنا بلقائها والتعرّف إليها. لقد غمرونا بحفاوة لا تُنسى، وتركوا في نفوسنا أثراً نقيّاً يلمع بصدق العشرة وصفاء النوايا.
في تلك البقعة من الأرض، وتحديداً في مدينة نيو أورلينز، أكبر مدن الولاية وأكثرها شهرة، تتقاطع الحكايات مع إيقاعات الحياة، ويتعانق التاريخ مع الموسيقى. مدينة تتنفس على إيقاع الجاز، وتضيء لياليها كرنفالات صاخبة، تجذب إليها الملايين كل عام، كأنها وعدٌ بفرح عابر أو ومضة سحرٍ خاطفة. هناك، حيث الحيّ الفرنسي ينبض بعراقة الحضارة، وحيث المطاعم العتيقة تتحوّل إلى محجّ للسياح والذواقة، يجد المرء نفسه وقد تماهى مع عبق الماضي ونكهة الجنوب الأميركي، كأن الأزمنة تتشابك في مشهد واحد. وتنساب نغمات الجاز في الأزقة كأنها لغة خفيّة لا يفهمها إلا القلب، تترجم حنين الإنسان إلى حرية لا تحدّها قيود.
ولويزيانا، على اتساع سهولها الساحلية، تبدو كخريطة مطرّزة بالحنين. طبيعتها خضراء، أنهارها شاهدة على تقلب الزمن، وغاباتها الكثيفة تحرس أسرارها القديمة. لكنها - على جمالها - لا تخلو من قسوة وجهها الآخر؛ فهي أرض يزورها الإعصار بين الحين والآخر، كزائر ثقيل يبعثر الأمان ويختبر صبر أهلها. وفوق ذلك، تحمل في طياتها مفارقة موجعة: فهي تأوي أكثر من خمسة آلاف من أعتى المجرمين في العالم، كأنما الجمال لا يكتمل إلا بنقيضه، وكأن هذه الأرض ابتُلِيَت بأن تحمل في أحشائها نوراً وظلمة، بهجةً وعنفاً، سلاماً وفوضى.
كان ذاك اليوم في أميركا يوماً آخر في عجلة ما يسمى "الركب الحضاري". غير أنّه لم يكن عابراً. بل بدا مثقلاً بالتأملات، مشحوناً بالمفارقات، وكأنه صفحة طُبعت عليها وجوه الحياة كلها: القسوة والرحمة، الفرح والحزن، الانفتاح والانغلاق. كان يوماً حمل إلينا إدراكًا مراً، لكنه في الوقت ذاته فتح أعيننا على زوايا لم نكن نراها من قبل.
الحياة هناك أشبه برقعة شطرنج، لا تلعبها بقدر ما تلعبك. أنت لست دائماً اللاعب، بل القطعة التي تتحرك على إيقاع استراتيجيات خفية، ترسمها ظروف لا تملك السيطرة عليها. وربما كنت أقرب إلى ورقة يعبث بها الهواء، تقذفها الرياح في كل صوب، وأنت لا تملك إلا أن تُحسن الوقوف حين تسقط، حتى لو لم تكن اختارتك الريح. هناك، يُدرَّب الإنسان على الصمود أكثر مما يُدرَّب على النصر، وعلى التحمل أكثر مما يُغرى بالراحة.
ومع ذلك، تبقى تلك البلاد - بالرغم من تناقضاتها - منارة للمغتربين، ومرآة لحلم الشباب الطموح. إنها الوجهة التي يحجّ إليها الباحثون عن فرصة، أو الهاربون من واقع ضيّق، أو الطامحون إلى مستقبل يليق بأحلامهم. لكنها أيضاً درب محفوف بالمجهول، طريق موشوّح بالخيبات، مرسوم بلعنة الانتظار الطويل. هناك، يتعلّم الغريب أنّ الحلم جميل، لكنه لا يُعطى بلا ثمن؛ وأن الرغبة في الارتقاء قد تصطدم بجدار الصعوبات، لكنّها لا تبرّر الاستسلام.
في نيو أورلينز، بدا كل شيء وكأنه مزيج من الأسطورة والحقيقة. الأرصفة تعجّ بالقصص، والوجوه تحمل آثار أجيال من المهاجرين والعبيد والبحّارة. كل زقاق يروي رواية، وكل متجر قديم يشهد على رحلات عابرة للمحيطات. هي مدينة لا تسمح لك أن تمرّ بها مرور الكرام، بل تجبرك على أن تتأمل ماضيك وأنت تتجوّل في حاضرها. حتى موسيقاها لا تُسمَع فقط، بل تُعاش، كأنها مرآة لصراع الإنسان مع قلقه ورغبته في التحرر من قيوده.
تجربة الغربة في تلك الأرض ليست مجرد تنقّل جغرافي، بل امتحان داخلي للذات. فهي تُريك كيف يتقلّب الإنسان بين الحنين والاندماج، بين التمسك بالجذور والتماهي مع الجديد. هناك، يتكشّف أن الانتماء ليس بطاقة هوية ولا جواز سفر، بل إحساس داخلي يُبنى بالصبر والاحتكاك والتجربة. ومع كل يوم يمرّ، يتعلم المرء أن ما يحمله في قلبه من صدق ووفاء، أثمن من كل المكاسب المادية التي قد ينالها.
ولعلّ أجمل ما تبقى من تلك التجربة، ليس المدن ولا الشوارع ولا الكرنفالات، بل الأصدقاء الذين كانوا بمثابة الوطن المصغّر. الصديق عطية يوسف طالب، مثلاً، لم يكن رفيقاً عابراً، بل صورة صافية للإنسان الذي يُعيد تعريف الغربة: أن تتحوّل الرفقة إلى جسر، والصداقة إلى مرساة، في محيط من المجهول. فالصديق الحقيقي هو الذي يُخفّف من قسوة الاغتراب، ويمنحك القدرة على احتمال ما لا يُحتمل، وكذلك الصديق عصام الشافعي ومحمود حماد، والقائمة تطول.
ومن ربوع لويزيانا، نتعلم أن الحياة ليست دائماً عادلة، لكنها دائماً معلّمة. وأن الإنسان، أينما حلّ، يظلّ يبحث عن ذاته وسط الزحام، يفتّش عن معنى يبرّر تعبه، وعن دفء يسكّن غربته. في النهاية، لا تبقى المدن في الذاكرة بما تحمله من مبانٍ وأسواق، بل بما تركته من أثر في قلوبنا، وبما منحتنا من لحظات صدق وإنسانية.