في ظل حمى الحرب الدائرة في غزة، وتصاعد العدوان في الضفة الغربية، لا يقتصر الصراع على المواجهة المباشرة مع الاحتلال الإسرائيلي. بل تنكشف فصول أخرى من الصراع الفلسطيني الداخلي، صراع خفي ولكنه أشد خطورة، يهدد بتقويض ما تبقى من أسس السلطة الفلسطينية. هذا الصراع، الذي يدور رحاه في الخفاء، وصل إلى أروقة الأجهزة الأمنية، التي تعتبر العمود الفقري لأي سلطة قائمة.
مسؤولون أمنيون فلسطينيون، ممن عايشوا الصراعات الداخلية على مر السنين، يطلقون صيحات إنذار مدوية. هم ليسوا مجرد مراقبين، بل شهود على محاولات حثيثة، وممنهجة، من قبل أنصار حركة حماس، لإضعاف الأجهزة الأمنية وإسقاط السلطة من الداخل. ما يثير القلق هو أن هذه المحاولات ليست مجرد حملات إعلامية أو سياسية، بل تتجاوز ذلك إلى محاولات تجنيد مباشرة، وتأجيج مشاعر الاستياء داخل صفوف الأجهزة الأمنية نفسها.
لا يمكن إنكار أن الأجهزة الأمنية الفلسطينية، كأي مؤسسة، ليست بمنأى عن التحديات. على رأس هذه التحديات يأتي الوضع الاقتصادي المتردي، الذي يضغط بشكل مباشر على الموظفين، وخاصة الشباب منهم. ففي ظل الرواتب المتأخرة، وارتفاع تكاليف المعيشة، والانسداد السياسي، يصبح هؤلاء الشباب فريسة سهلة للتحريض. هذا التحريض يأتي من جهات خارجية وداخلية، ويستغل حالة الإحباط ليقدم لهم "مخرجاً" مزعوماً يتمثل في الانضمام إلى "المقاومة" المسلحة، بمعزل عن سلطة القانون.
هذا التحريض يمثل قنبلة موقوتة. فإذا نجحت هذه المحاولات في دفع أعداد كبيرة من عناصر الأجهزة الأمنية نحو العنف، فإن ذلك لن يؤدي فقط إلى فوضى داخلية، بل سيمنح الاحتلال الإسرائيلي المبرر الذي يبحث عنه. فإسرائيل، التي لطالما اتخذت من وجود "العمليات المسلحة" ذريعة لاستهداف الأجهزة الأمنية واعتقال أفرادها، ستجد في هذا التحول دليلاً دامغاً على "عدم شرعية" هذه الأجهزة، مما يبرر لها شن حملات عسكرية أوسع نطاقاً لتدميرها.
ما يجري ليس صراعاً على الشرعية فحسب، بل هو صراع على هوية المشروع الوطني الفلسطيني. فهل سيتم بناء الدولة على أسس مؤسساتية، أم سيبقى رهينة للفوضى المسلحة؟ الأجهزة الأمنية الفلسطينية، بالرغم من كل الانتقادات التي توجه لها، هي اليوم خط الدفاع الأخير عن مشروع الدولة. إن إضعافها أو تدميرها سيعيد الضفة الغربية إلى مربع الفوضى الذي شهدناه في مراحل سابقة، وسيقضي على أي إمكانية لإقامة سلطة سيادية فلسطينية حقيقية في المستقبل.
هذه التطورات الداخلية تأتي في وقت حساس للغاية. بينما يواصل الاحتلال حرب الإبادة في غزة، وتتزايد أعداد الشهداء والجرحى في الضفة الغربية، تصبح الوحدة الوطنية أكثر إلحاحاً من أي وقت مضى. لكن ما نراه هو العكس تماماً؛ انقسام متزايد، ومحاولات لإسقاط المؤسسات الفلسطينية من الداخل، مما يخدم، في النهاية، مشروع الاحتلال.
لعبة حماس على حبل السلطة محفوفة بالمخاطر. فهي وإن كانت تسعى لإضعاف السلطة، إلا أنها قد تدفع الضفة الغربية نحو حالة من الفوضى الشاملة، التي لن يكون أحد بمأمن من تبعاتها. وعلى السلطة الفلسطينية أن تكون حذرة ويقظة، وأن تتعامل مع هذا التحدي بحكمة، وأن تسعى بكل جدية لحماية أفراد أجهزتها الأمنية من الضغوط الاقتصادية والتحريض الخارجي.
إن السبيل الوحيد للخروج من هذه الأزمة هو الوعي الكامل بالتهديدات الداخلية والخارجية، والعمل على تعزيز الوحدة الوطنية، وإصلاح المؤسسات الفلسطينية، وإعادة بناء الثقة مع الشعب. يجب أن تكون هناك استراتيجية واضحة لمعالجة الأسباب الجذرية لليأس والإحباط، بدءاً من الأوضاع الاقتصادية الصعبة. إن الأمن ليس مجرد قوة عسكرية، بل هو حالة اجتماعية وسياسية واقتصادية متكاملة. وإذا لم يتم التعامل مع هذه المشكلة بشكل شامل وجذري، فإن الأزمة ستتفاقم، وقد ينتهي المطاف بالجميع في حفرة عميقة من الفوضى، لا يستفيد منها إلا من يتربص بالقضية الفلسطينية ويسعى لإفشالها.