المشهد السوري يشهد تحولات جذرية وغير مسبوقة، لا سيما بعد سقوط نظام الأسد في كانون الأول (ديسمبر) 2024. وفي قلب هذه التحولات يكمن مستقبل الإسلام السياسي وهذا يطرح تساؤلات حاسمة حول طبيعة وجوده ودوره في سوريا الجديدة، فهل نحن أمام نهاية حقبة تاريخية، أم مجرد "تغيير للجلد" يعكس تكييفًا وتجديدًا في ظل ظروف جديدة؟ وتشير المعطيات الحالية إلى أن السيناريو الثاني هو الأقرب إلى الواقع، حيث يسعى الإسلام السياسي لإعادة تعريف ذاته مستفيداً من الفرص الجديدة ومواجهًا تحديات جسيمة.
يمتلك الإسلام السياسي في سوريا تاريخًا طويلاً من النشاط بدأ منذ فترة ما بعد الاستقلال مع جماعات مثل الإخوان المسلمين التي واجهت قمعًا شديدًا خلال حكم عائلة الأسد، وبالرغم من القمع استمرت هذه الحركات في التواجد وإن كان بشكل سري، ومع اندلاع الثورة السورية عادت هذه الحركات للظهور بقوة أكبر مع تباينات في مواقفها وأهدافها. إن هذا التحول ليس مجرد استمرارية بل هو تطور يعكس قدرة هذه الحركات على التكيف، إذ يُعد صعود هيئة تحرير الشام مثالاً بارزاً على هذا التحول، فبعد أن كانت جزءاً من جبهة النصرة ذات الأصول الجهادية، تطورت الهيئة لتصبح قوة عسكرية وسياسية رئيسية ساعدها على استلام الحكم في سوريا، حيث تسعى الهيئة حالياً إلى تقديم نموذج سياسي يجمع بين الأيديولوجيات الوطنية والدينية مع التركيز على قيم الحوكمة والاستقرار في محاولة لكسب الشرعية الداخلية والدولية.
وبالرغم من النجاحات الأولية التي حققتها بعض فصائل الإسلام السياسي إلا أن هناك فجوة واضحة بين تطلعات قياداتها وواقع الحوكمة السياسية على الأرض، إذ تواجه هذه الحركات تحديات كبيرة في ترجمة أيديولوجياتها إلى ممارسات حكم فعالة تلبي تطلعات الشعب السوري المتنوع. هذه الفجوة ليست حكراً على التجربة السورية بل تعكس تجارب مماثلة لحركات إسلامية في دول أخرى بالمنطقة شهدت تراجعًا نتيجة تقلبات سياسية وتغير في الرأي العام.
إنَّ إحدى أبرز هذه التحديات هي الحاجة إلى التوفيق بين المرجعية الدينية والهوية الوطنية والتعددية السياسية، ففي ظل مجتمع سوري متعدد الأعراق والطوائف يتطلب بناء دولة مستقرة وشاملة تجاوز الخطابات الأيديولوجية الضيقة نحو نهج أكثر انفتاحًا وشمولية، وهذا يتطلب تجديدًا في الرؤية والممارسات السياسية لتحقيق استقرار الحكم وتلبية تطلعات السوريين في ظل كسر هيمنة النظام البائد.
مما لا شك فيه أنَّ هذا التحدي لا يقتصر على الحوكمة فقط بل يمتد إلى إعادة تعريف جوهر الإسلام السياسي نفسه، لذلك نسمع عن دعوات داخلية وخارجية لإعادة صياغة دور الإسلام السياسي بحيث لا يُنظر إليه كبديل للوطنية بل كجزء لا يتجزأ منها، وكمحفز للسلوك الصالح والتعاون بدلاً من استخدامه كسلاح سياسي. وهذا يشمل الدعوات لحل جماعات تقليدية مثل الإخوان المسلمين في سوريا في إشارة إلى ضرورة التكيف مع المشهد السياسي الجديد.
تتوقع بعض التحليلات مسارًا يقود إلى إعادة تعريف دور الإسلام السياسي في سوريا والعالم عبر نموذج سوري يدمج الدين مع الوطنية والديمقراطية والتعددية بدلاً من أن يكون صراعاً محصوراً في الهوية الدينية فقط. وهذه الرؤية تطرح سوريا كـ "مختبر" محتمل لنموذج جديد للإسلام السياسي يتجنب أخطاء الماضي ويتكيف مع التطلعات الحديثة.
ومع ذلك لا تخلو هذه المرحلة من المخاطر، فثمة احتمالات لثورة مضادة وضغوط خارجية وتوازنات إقليمية قد تدفع باتجاه مخرجات سياسية تحافظ على وجود الإسلام السياسي لكنها قد تضعه تحت أطر مؤسساتية ودستورية جديدة. كما أن الانقسامات الأيديولوجية بين الحركات الإسلامية نفسها تهدد توحيد الصف وبناء جبهة موحدة لإدارة البلاد.
من ناحية أخرى لا يمكن فهم مستقبل الإسلام السياسي في سوريا بمعزل عن الأبعاد الإقليمية والدولية، فالتدخلات الخارجية سواء كانت داعمة أو معارضة للحركات الإسلامية تؤثر بشكل كبير على مسارها، وبعض القوى الإقليمية قد ترى في الإسلام السياسي السوري فرصة لتوسيع نفوذها بينما قد تسعى قوى أخرى لاحتواء دوره أو تغيير مساره.
السيناريوهات المحتملة لمستقبل الإسلام السياسي في سوريا تتراوح بين الاندماج في هياكل الدولة الجديدة، أو الانهيار إذا لم تتمكن هذه الحركات من التكيف مع الواقع الجديد وتلبية تطلعات الشعب. والتاريخ الحديث للمنطقة مليء بأمثلة لحركات إسلامية صعدت ثم تراجعت بسرعة بسبب عوامل داخلية وخارجية.
في الختام يظهر أنَّ الإسلام السياسي في سوريا لا يتجه نحو نهاية حقبة بل نحو "تغيير للجلد" عميق وشامل. وهذه المرحلة تتسم بإعادة تعريف الأدوار والأيديولوجيات ومواجهة تحديات الحوكمة والتكيف مع مجتمع متنوع، والنجاح في هذه المرحلة سيعتمد على قدرة الفاعلين الإسلاميين على تجاوز الأيديولوجيات الضيقة نحو نهج أكثر شمولية وواقعية يضمن الاستقرار ويحقق تطلعات الشعب السوري في بناء دولة مستقرة ومزدهرة. والمستقبل في سوريا سيكون نتاج تفاعل معقد بين القوى الداخلية والخارجية، ومن الواضح أن الإسلام السياسي سيكون مرحلياً جزءاً لا يتجزأ من هذه المعادلة المتغيرة.