كتب مسار عبد المحسن راضي وميسون الدملوجي: سياسة بغداد مع واشنطن وإيران تشبه الأذنين التي امتلكها الباشا نوري السعيد في كِبره. هذا السياسي الشهير في العهد الملكي للعراق أصبح مع تقدمه في العمر يسمع ما يريد ويصاب بالصمم عمّا لا يريد. أُذنا السعيد في سياسة العراق مع طهران مثلاً في يومنا الحالي أفضل قليلاً من حالها قبل سنتين ونصف تقريبًا: "بدأوا يحترموننا ويأخذون كلامنا بجدية أكبر". فؤاد حسين، وزير الخارجية العراقي، استخدم تلك المفردات في سياق إجابته على شكل العلاقة بين بغداد وطهران، داخل حلقة نقاشية مع مجموعة من الساسة والباحثين عندما زار واشنطن، بهدف تخليص اتفاقية الإطار الاستراتيجي بين العاصمتين من قيود الأمن والعسكرة، وتنشيط آفاقها الأخرى كالاقتصاد.
إجابة الوزير حسين بدورها أفضل من واقع بعض المشتغلين بالسياسة الذين اتخذوا من انتقاد إيران تلّة لتصبح قامتهم عريضة على الشاشات. الشيخ جواد الخالصي أسرَّ لنا عام 2021 بأنه قد نصح الإيرانيين بعدم المبالغة في تقدير درجة قبولهم الشعبية داخل العراق. الشيخ علّق مبتسمًا على العضلات الانتقادية الإيرانية لبعض الساسة والشخصيات العراقية التي كانت تزور طهران بما كان مفادُه: "يذهبون بنوايا انتقادية ويعودون بعقلية إيرانية".
العلاقة مع إدارة الرئيس دونالد ترامب تقع هي الأخرى في منطقة أكثر رمادية من نظيرتها الإيرانية. الرئيس الأميركي يُبصر قيمة بغداد في بُعد المسافة عن طهران. كلما ابتعدت ابتسم، وكلما اقترب أطلق قذيفة تحذيرية عبر السوشيال. طبعًا، الاهتمام ينبع من نظرة إدارته بأن بغداد تلعب دورًا كبيرًا في تعويم الاقتصاد الإيراني ومنعه من الغرق تحت مستوى سطح سياسات "العقوبات الأقصى" الأميركية. أهمية العراق حاليًا تتعلق بسياسة المسارين المتبعة مع إيران: "دبلوماسية وعقوبات".
دونالد ترامب يستطيع أن يسبب ضررًا كبيرًا للعراق الذي توجد أمواله في صناديق الفيدرالي الأميركي. لكن بلادنا ترتبط بالغرب بشكل كبير في مجالات الاقتصاد والمال والطاقة، ونحن نسعى معه للمزيد. ليس بمقدورنا أن نتحمّل أي نوع من العقوبات أو أشكال الحصار. الوهم بأننا قادرون على التحمّل يعني بأن العراق خالٍ من السياسيين، وقد يُحفّز هذا الوهم مؤشر "جودة النخب" العالمي الذي وضع العراق في المرتبة 146 من مجموع 151 دولة، خارج أي تصنيفات معقولة.
عيب السياسة الخارجية العراقية أنها صدى للصراعات الحزبية، وخالية من خطوط حمراء تُطمئن المجتمع الدولي بأن سياسات بغداد نابعة من مصالحها العليا. تاريخيًا، كان الرأي الأمريكي بسياسات عبد الكريم قاسم، الرئيس العراقي الأسبق، أنها "مجنونة" لأن قاسم آمن بقدرته على تسيير سياسة البلاد الخارجية على رصيف مستقل، بعيدًا عن شارع الإيديولوجية الشيوعية والقومية. عراق الآن يؤمن بأن الاقتصاد يعطيه قدرة السير السياسي الآمن على الحبل الاستراتيجي المشدود بين واشنطن وطهران.
يجب أن نعترف بأن حكومة العراق الحالية استطاعت على أقل تقدير صناعة موقف عقلاني وجيد منذ حدث السابع من أكتوبر 2023 بين حماس وإسرائيل، وصولًا إلى الحرب الإسرائيلية ضد إيران في 13 حزيران (يونيو) 2025 وما حدث في لبنان قبلها. هي قد نجحت في منع انزلاقنا إلى آتون هذه الحرب. بالطبع، حوادث استهداف بعض مصافي البلاد النفطية بالمسيّرات قد تدفعنا إلى رؤية نجاح الحكومة كنُسخة كربونية عن التوازنات بين واشنطن وطهران. إذاً، بين ربّما أن يكون نجاحًا وربّما هو توازن صنعه آخرون، يبقى على العراق الرسمي أن يرتقي بسياساته بعيدًا عن لجوء الآخرين إلى "ربّما" في تفسير سياساته.
يستطيع العراق الرسمي في اللحظة الحالية تدريب نفسه على الارتقاء بسياساته بعيدًا عن التأويلات التي تذهب إلى أقصى اليمين واليسار بعلاقة ناضجة مع سوريا. رقبة سياسات بغداد الحالية مع دمشق متصلبة أمنيًا. بلادنا تتجاهل حقيقة أنه في زمن المرحلة الانتقالية التي تعيشها دولة ما، فإن الدول التي لا تسمح بغيابها عن هذا المشهد المؤقت، تكون صاحبة نفوذ إيجابي.
دمشق تستطيع أن تلعب أدوارًا متعددة في صالح بغداد من الاقتصاد إلى الأمن الغذائي، لذا فإن اعتماد بغداد على السلم الأمني سوف يكسّر أقدام العلاقات المستقبلية معها. بغداد لديها فسحة ضيقة نسبيًا للاختيار بين أن تكون فاعلاً صوتيًا في القرار السوري أو ثقلًا وازنًا في حسابات دمشق. النتيجة، مهما كان شكل النظام في دمشق، فإننا لا نستطيع أن نقوم بترحيل الجغرافيا حتى يأتي نظام آخر على مقاسنا. الأكيد أننا مطالبون أن نُبقي مسافة آمنة لا بعيدة مع دمشق حتى يتضح لونها السياسي بشكل نهائي، بعد أن غرق في منطقة الساحل السوري وفي مدينة السويداء خلال الأيام الماضية.
الولايات المتحدة تركت الإجابة عن سبب مساعداتها لدول العالم على لسان ريتشارد نيكسون، الرئيس الأمريكي الأسبق، في سبعينيات القرن الماضي: "نحن نساعد أنفسنا لا الآخرين". كما أن إعادة العمل بخط بانياس لنقل النفط العراقي قد تستطيع جمع بغداد ودمشق في منطقة وسط، تكون صالحة لاستشراف المزيد من الممكنات.
نعتقد كذلك بأن طريقة تعاطي نخب البلاد السياسية مع ملف الحشد الشعبي تستطيع مساعدة العراق الرسمي على النجاح في مسار السياسة الداخلية والخارجية. الاعتراف بالتضحيات التي قدّمتها الجهات المنتمية لهذه المؤسسة يجب ألا تُنكر عليها. مصير تلك الجهات، سواء بالدمج في مؤسسات البلاد العسكرية أو الأمنية أو المدنية، يجب حصوله بطريقة تحفظ سمعتهم، لا أن تحدث كإهانة أو عقاب. إن لم يُراعَ ذلك، فلا نستغرب أن تبقى تلك الجهات مصدر تهديد اقتصادي وعقوبات دولية. واشنطن ترفض دمجهم بحجة بقاء السلاح تحت يد تلك الجهات، لكن يجب أن نستهل الحوار معها بالقول: "دمشق دمجت مقاتلين أجانب ونحن لن نقوم إلا بدمج العراقيين". بغداد يجب أن تنأى بسياساتها الخارجية بعيدًا عن أسلوب صوّرني دوليًا وحمّض صورتي إيرانيًا.
تبقى البلاد مطالبة وسط ما تقوم به إسرائيل في غزة ولبنان وسوريا وإيران بأن لا تتحرّك بشكل انتقائي. عليها أن تكون فاعلة في عمل جماعي ضمن جامعة الدول العربية ومنظمة الدول الإسلامية، لدرء الأخطار المستقبلية عنها وعن المنطقة. إسرائيل تسعى لتفكيك المنطقة، ومن المرجح أن تحاول الانفراد بالعراق بناءً على خط سير الأحداث.
عراقيًا، نحن بحاجة إلى وحدة موقف. كذلك عربيًا، من بغداد إلى جبل طارق علينا الاختيار بين كوننا قطيع ذئاب أو حملان. حماية الفلسطينيين في غزة والضفة الغربية وحل الدولتين وتقديم المساعدات بديهيات لا ضروريات. سياسات العراق والعرب يجب أن تبتعد بالكامل عن المنصات وتصبح شاحنات مساعدات على أقل تقدير.
بلادنا تستطيع أن تكون جسراً بين واشنطن وطهران، لكنها لا تستطيع أن تكون جوهرة التاج الإيراني المصقولة طائفيًا، ولا تستطيع أن تكون هراوة أمريكية، فرأس بغداد السياسي ما زال مليئًا بالجروح الطائفية والتحديات الاقتصادية. يجب أن تسمح الولايات المتحدة لنا بالنضوج الاستراتيجي في المنطقة العربية والعالم، بدون تجديد سياساتها معنا بالشباب الإيراني والخرافات الجغرافية التي تهب من تل أبيب.