: آخر تحديث

‏ولي العهد في الخطاب الملكي: ‏نبض وطن يتكئ على ماضيه ليكتب مستقبله

2
1
1

بين فخامة اللحظة وعمق المعنى
‏في حضرة الكلمة، وبين جدران مجلس الشورى العريقة، انبثق الخطاب الملكي كنبض وطن يتكئ على ماضيه ليكتب مستقبله. كان الافتتاح رسمياً ينطلق من لحظة وطنية مكتنزة بالمعاني؛ حيث تقاطعت السياسة بالتاريخ، والتطلعات بالحقائق، والأصوات الوطنية بنبض المواطن. وقف سمو ولي العهد ليلقي ما يتجاوز النصوص؛ ليُجسِّد ما تعنيه الدولة حين تنطق.
‏فحين ألقى صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان الخطاب نيابة عن خادم الحرمين الشريفين، لم يكن الأمر تقنيًا أو بروتوكوليًا فحسب، وإنما كان فعلًا رمزيًا يُرسِّخ مكانة ولي العهد كخليفة سياسية وكصوت الدولة في لحظتها الحضارية الجديدة. إنها ثقة الدولة في من يمثلها، وتأكيد على استمرارية السلطة بوعي حديث لا ينفصل عن ثوابتها.
‏لقد كان لمكان الخطاب أثره الرمزي كذلك؛ فمجلس الشورى جهاز استشاري، وهو مؤسسة تمثل الذاكرة السياسية للدولة السعودية الحديثة. وفي الخطاب، بدا وكأن ولي العهد لا يخاطب المجلس فحسب، حيث يفعّل دوره ويعيد ضخ الحياة في أوردته التشريعية، مانحًا إياه بعدًا تشاركيًا جديدًا في المشروع الوطني.
‏ليست كلمات الخطاب مما يُكتب لإرضاء لحظة، بل مما يُرسم ليُطبّق. فقد حملت فقراته إشارات واضحة لملفات استراتيجية: الاقتصاد، الصناعة، الأمن، السياسة الخارجية، والهوية. ومَن تأمل فيه بتمعّن، أدرك أنه بيان حالٍ دولة تسير بخطة، وتتقدّم بإيقاعٍ موزون، وترتّب أولوياتها بحساب التاريخ لا ارتجال اللحظة.
‏أبرز ما توقف عنده الخطاب هو تحقيق التحول النوعي في بنية الاقتصاد، حيث باتت الأنشطة غير النفطية تُمثّل 56% من الناتج المحلي. تلك ليست أرقامًا تُسكب في الفراغ، ولكنها علامات على كسر التبعية التاريخية للنفط، وبداية طريق نحو اقتصاد منتج، يخلق من الداخل قوته، ويصدّر للعالم فعاليته.
‏وفي أحد أكثر محاور الخطاب دلالة، تحدّث ولي العهد عن تطور ملف التوطين العسكري، الذي ارتفعت نسبته من 2% إلى أكثر من 19%. هذا الرقم يُقرأ كإنجاز فني وكتحوّل فلسفي في معنى "السيادة الوطنية". فعندما تصنع الدولة أدوات دفاعها، فإنها تكتب أمنها بيدها، وتحمي قرارها من الارتهان. ومن هنا، فإن الحديث عن الصناعة العسكرية قد أصبح تجليًا لرؤية متكاملة حول الاكتفاء الاستراتيجي.
‏لم يخلُ الخطاب من تأكيدٍ صريح على الموقع الذي باتت المملكة تحتله في السياسة الدولية، بوصفها "دولة محورية" في معادلات الاقتصاد العالمي، والطاقة، والاستقرار الإقليمي. وهذا الحضور الدولي لا يولد صدفة، وإنما  يُبنى عبر مزيج من الدبلوماسية الفاعلة، والتحالفات الذكية، والمواقف الثابتة. لقد بدت المملكة في الخطاب وكأنها تتحرك من الهامش إلى المركز، وتكتب اسمها بلغة الدول الفاعلة لا التابعة.
‏وقف الخطاب عند القضية الفلسطينية كموقف لا يلين. "لا استقرار إقليمي دون إنصاف الشعب الفلسطيني" — جملة واحدة لكنها تزن كتبًا من التوازنات. في زمن تتآكل فيه المواقف، وتتهاوى فيه الثوابت، جاء تأكيد القيادة السعودية على عدالة القضية ليُعيد تذكير العالم بأن فلسطين ليست بندًا في الاجتماعات، وإنما مبدأ في الضمير السياسي للمملكة. وهنا يَصدق القول: من لا يحمل القدس في قلبه، سيسقط في امتحان التاريخ.
‏حين تُسند الرؤية بالأرقام، يتحوّل الحُلم إلى مشروع. تحدّث الخطاب عن الناتج المحلي الذي تجاوز 4.5 تريليون ريال، وتقدّم المملكة في أكثر من 40 مؤشرًا عالميًا. إنها لحظة الانتصار الصامت للأداء المنظّم، للحكومة التي تقيس لا تَرتجل، وللسياسة التي تعمل بلغة الإنجاز لا الإنشاء. والمؤشرات هنا لا تخدع، بل تُفصح عن دولة تُدير حاضرها بعقلية مؤسسية، وترسم مستقبلها ببوصلة الاستدامة لا الغنيمة.
‏ومنذ انطلاق رؤية 2030، والحديث عن "تمكين المواطن" يتكرر. لكن في هذا الخطاب كان "محور الرؤية وغايتها"، كما ورد في العبارة التي استوقفت كثيرين. التعليم، والوظائف، والصحة، وجودة الحياة... كلها ليست محاور نظرية، وإنما مجالات تُعاد صياغتها بما يليق بالإنسان السعودي. فالخطاب في جوهره موجّه إلى مجلس الشورى وإلى كل مواطن يرى في الوطن مشروعًا لحياته.
‏وما بين سطور الخطاب، تسرّبت إشارات لملف لا يقل أهمية عن الاقتصاد أو الأمن: الهوية الثقافية. فالسعودية الجديدة لا تسعى إلى التحديث كنسخٍ أعمى لنماذج غربية، بل تبتكر صياغتها الخاصة لما يعنيه أن تكون حداثيًا ومتجذرًا في آنٍ معًا. الثقافة هنا ليست ترفًا نخبويًا، ولكنها قوة ناعمة ناهضة، تُسهم في بناء الصورة الدولية للمملكة وتخلق روابط وجدانية بين المواطن ووطنه.
‏أحد أجمل ما يتجلّى في الخطاب هو ذاك الانسجام العميق بين الأصالة والمعاصرة. ففي الوقت الذي تتقدم فيه المملكة في مجالات الذكاء الاصطناعي، والطاقة النظيفة، والتقنيات المتقدمة، لا تزال جذورها الدينية والثقافية والعربية حاضرة في الخطاب كدليل هوية لا موضة قديمة. ذلك المزج المتوازن بين الثابت والمتغير، بين الموروث والمستقبل، هو ما يجعل النموذج السعودي فريدًا، لا نسخةً من أحد، ولا ظلًا لغيره.
‏وفي زمن امتلأت فيه الساحات بضجيج الخطابات الفارغة، جاء هذا الخطاب ليس ليُملأ به وقت المجلس، بل ليُملأ به وعي الأمة. فكل فقرة، وكل رقم، وكل موقف، كُتب ليُقنع لا ليُزيّن. والحِجاج هنا لم يكن استعراضيًا، بل تأسيسيًا؛ يؤسس لمرحلة من الوعي الجمعي بأن الدولة مشروع مشترك، وأن المواطن ليس متلقيًا للقرارات بل شريكًا في صياغة المصير. هنا تُبنى الدول، لا على الطموحات وحدها، بل على الوعي بحجمها.
‏لم يغب عن الخطاب تعزيز دور مجلس الشورى كمؤسسة رقابية وتشريعية، لها أن تُسهم لا فقط في مناقشة الأنظمة، بل في صياغة توجهات الدولة. من خلال هذا التعاطي الراقي مع المجلس، تؤكَّد فلسفة الحُكم بالمشاركة، حيث لا تُدار الدولة من فوق، بل بتكامل الرؤية بين القيادة والسلطة التشريعية. ومن هنا، فإن مجلس الشورى في الخطاب بدا كمسؤول أمام التاريخ، لا مجرد جهاز بيروقراطي.
‏لم يكن خطاب ولي العهد مناسبة سنوية، بل لحظة فارقة تُسجَّل في ذاكرة الدولة السعودية. هو خطاب لا يُلقى ليمضي، بل ليفتح مسارًا، ويُرسي قناعات، ويصوغ المعنى الجديد للمواطنة والتنمية والسيادة. في كلماته نبرة الواثق، وفي بنائه حنكة رجل دولة، وفي مضمونه روح أمة تعي ذاتها، وتُعيد ترتيب موقعها على خارطة العالم لا بانتظار الآخرين، بل بصناعة قدرها بنفسها.
‏بهذا النص، حاولنا التعرف على بنية الخطاب الملكي الراقي، كبيان حضاري متكامل. لقد جسّد الخطاب ملامح رؤية واعية، قيادية، تقدمية، ترسم للسعودية طريقًا بين الأمم، وتُعيد تعريف العلاقة بين الدولة والمواطن، وبين الحاضر والمستقبل.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.