: آخر تحديث

الأفكار التي لا تموت

6
6
5

عندما انطفأت آخر شمعة في قصر الباستيل معلنةً سقوط حصن الطغيان في صيف عام 1789، لم يسمع أحد في الدول العربية المتشبثة بتقاليدها العثمانية الراسخة ما حدث في باريس. كانت المسافات شاسعة، ووسائل الاتصال بدائية، والعالم العربي غارقاً في سباته العميق. لم يبلغنا لهيب الثورة المشتعلة، ولم تصل صرخات الثائرين المطالبين بالحرية والمساواة والإخاء إلى أسماعنا. ومع ذلك، وكما تُشير البوصلة دائماً إلى الشمال، وصلت رياح خفيفة من القارة الأوروبية، حملت معها نسائم أفكار لم تكن مألوفة، وأوراقاً وأحباراً لم تجف بعد من مطابع الثورات الفكرية والعلمية، متجهة نحو بلاد لم تتذوق طعم الحرية السياسية أو الحداثة المعرفية. كانت هذه الرياح هي بشائر عصر جديد، عصر الكتاب المطبوع والفكرة المنتشرة.

وصول هذه الأوراق لم يكن مجرد صدفة، كان نتيجة حتمية لتفاعل حضاري غير متكافئ بدأ بشكل مكثف مع حملة نابليون بونابرت على مصر عام 1798. صحيح أن الحملة كانت عسكرية في جوهرها، إلا أنها كانت تحمل في أعماقها بذوراً معرفية غيّرت وجه مصر والمنطقة. لم يأتِ نابليون بجيوشه فحسب، جلب معه مطبعة حديثة تعد أول مطبعة حقيقية دخلت مصر والشرق العربي. كانت مخصصة في البداية لطباعة المنشورات العسكرية والأوامر الإدارية للجيش الفرنسي، إلا أنها فتحت الباب أمام تحول جذري. وبعد عقود قليلة، أسس محمد علي باشا عام 1820 "المطبعة الأميرية" في بولاق، التي أصبحت رمزاً لقوة جديدة في نشر الأفكار.

كانت الكتب حينها نادرة وقليلة الوجود في العالم العربي، تعتمد على النسخ اليدوي البطيء والمكلف، مما حصر المعرفة في طبقة محدودة من العلماء وطلاب العلم. وحين بدأت هذه الكتب القادمة من أوروبا، أو تلك المترجمة حديثاً بجهود رواد الترجمة الأوائل، تشق طريقها نحو المطابع الشرقية التي أسسها محمد علي باشا، بدأت المعرفة تتدفق. في ذلك الوقت كان التعليم يعتمد على الكتاتيب والأزهر الشريف وبعض المدارس الأولية. لكنه، بفضل هذه الكتب الجديدة، أرسى البذور الأولى للتنوير. صار الطفل يتعلم الأبجدية، يقرأ في كتب التاريخ الحديث، والعلوم، وحتى الروايات المترجمة، وفي الوقت نفسه كان يحمل في داخله فكرة كبرى لم يكن يعرف اسمها بعد: "فكرة التغيير". كانت هذه الفكرة تتسلل عبر صفحات الكتب، وتتغلغل في العقول الشابة، وتشير إلى مستقبل مختلف.

الدولة، وعلى رأسها حكام مثل محمد علي باشا في مصر، رحبت بالتعليم ونشرت المدارس والبعثات التعليمية إلى أوروبا، لكنها كانت تركز على التعليم التقني والعسكري الذي يخدم بناء الدولة الحديثة وقوتها. لم تكن تدرك أن الطفل الذي يحفظ دروس النحو والتاريخ، ويتعلم العلوم الحديثة، ويطلع على الفكر الغربي، سيكبر ليطالب بالدستور، وبالمحاسبة على الأموال العامة، وبأن تكون السلطة جديرة بالثقة، لا مطلقة. كان التعليم سلاحاً ذا حدين، يخدم الدولة في بنائها، لكنه يفتح آفاقاً لمطالبات شعبية لم تكن في حسبان السلطة.

مع انتشار الكتب والمطابع والصحف، بدأت ملامح المجتمع تتغير بشكل جذري. لم تعد المعرفة حكراً على المثقفين، بل صارت في متناول شرائح أوسع من الناس. أصبح القراء أكثر وعياً بالقضايا المحلية والعالمية، وظهرت أولى ملامح الوطنية الحديثة التي تتجاوز الولاءات القبلية أو الطائفية أو حتى العثمانية. من كانوا بالأمس منشدين في الموالد، أو فلاحين يعيشون حياة بسيطة، أو تجاراً مهتمين بشؤونهم اليومية، صاروا اليوم يكتبون في الصحف والمجلات، ويوقعون على رسائل الاحتجاج، ويحملون قيماً جديدة تتجاوز الألقاب والانتماءات التقليدية. لم يعد الانتماء إلى القبيلة أو العشيرة هو المحدد الوحيد للهوية، بل بدأ يتشكل وعي جماعي بانتماء أوسع: الأمة.

في الدول العربية، أضاءت المكتبات، العامة والخاصة، ليالي المدن المظلمة بفكر جديد. أصبحت أماكن للقاء المثقفين وتبادل الأفكار. أصبح الكتّاب والمفكرون رموزاً ثقافية حقيقية، لا يقل تأثيرهم عن الزعماء السياسيين في بعض الأحيان. فمصطفى لطفي المنفلوطي (1876-1924) كتب بأسلوب آسرٍ يلامس شغاف القلوب في "النظرات" و"العبرات"، مقدماً قيماً إنسانية بأسلوب أدبي رفيع ساهم في تهذيب الأذواق وتوجيه العواطف النبيلة. أما عباس محمود العقاد (1889-1964)، فقد أرسى دعائم الفكر النقدي والتحليل بصرامته الفكرية ومنهجه التحليلي في سلسلته "العبقريات" ومقالاته النقدية، دافعاً باللغة العربية إلى آفاق جديدة من التعبير والتفكير العميق. وفي المهجر، كتب ميخائيل نعيمة (1889-1988) من غربته نصوصاً روحانية وفلسفية عميقة مثل "كتاب مرداد"، بقيت قريبة من الوجدان العربي رغم بعدها الجغرافي، تدعو إلى التأمل والبحث عن المعنى.

انتقال الكتب والمجلات والصحف بين القرى والمدن كأنها رسائل من زمن قادم، حاملة معها أفكاراً جديدة ومفاهيم حديثة. صار المثقف وجهاً معروفاً في المجتمع، لا تطلبه السلطة فقط لتبرير سياساتها، لكن يحظى بالاحترام والتقدير في المقاهي والندوات والبيوت، حيث تُستشار آراؤه وتُناقش أفكاره. وصارت اللغة العربية الفصحى، بعد أن كانت لغة النخبة المتعلمة، هي لغة التغيير والثقافة والحب والمقاومة، تتجلى في الصحف والمجلات والكتب التي تزداد انتشاراً.

ثم بدأت مرحلة جديدة مع دخول الحرب العالمية الأولى (1914-1918م) وما جاء بعدها من أحداث مهمة، كتقسيم المنطقة العربية بموجب اتفاقية سايكس بيكو، وظهور الاستعمار الحديث بأشكاله المختلفة. حملت هذه الفترة معها تيارات فكرية حادة وعنيفة، بعضها مستورد من الغرب وبعضها نابع من ردود فعل محلية. لم تعد الكلمات ناعمة كما كانت، وظهرت مصطلحات جديدة فرضت نفسها على قاموس الناس. فبينما كانت أفكار الاشتراكية قد ظهرت قبل الحرب، تصاعدت أهميتها بعد ذلك ودعت إلى العدالة الاجتماعية، كما أكدت القومية على الهوية المشتركة للدول المستقلة حديثاً. والجهاد بمفاهيمه المتعددة، والبروليتاريا (الطبقة العاملة) التي دخلت الوعي الاجتماعي. هذه الكلمات، ورغم أهميتها في سياقها، فرضت نفسها أحياناً على حساب قيم أعمق وأكثر جوهرية، مثل الحرية الفردية، والضمير، والفردية الإنسانية التي كانت محور اهتمام الرواد الأوائل.

الدولة، التي كانت تراقب المشهد الثقافي من بعيد، وتسمح ببعض الحريات في ظل بناء نفسها، قررت مع تصاعد التيارات الفكرية وتنامي الحركات السياسية، التدخل المباشر. بدأت تسيطر على المطابع، وتفرض الرقابة المشددة على الكتب والصحف، وتمنح الموافقات وتلغيها حسب أهواء السلطة. لم يعد الكاتب حراً تماماً في التعبير عن رأيه، ولم يعد المثقف يُسأل ليفكر بحرية ويطرح رؤى مستقلة، بل صار يُستدعى ليوافق على السياسات القائمة ويُروّج لها، أو يُتهم بالخيانة والتحريض. هذه الفترة شهدت بداية تضييق الخناق على الحريات الفكرية في كثير من الدول العربية.

في الوقت نفسه، شهدت المنطقة توسعاً سريعاً في الكليات العلمية (الطب، الهندسة، العلوم) لتلبية احتياجات التنمية والبناء، بينما تجاهل تعليم الفلسفة والآداب والعلوم الإنسانية بشكل مقصود أو غير مقصود. لم تعد المعدلات العالية تقود إلى دراسة الفكر والإبداع الأدبي، بل إلى المعمل والجراحة والتقنية. أما من أراد قراءة أفلاطون أو فهم ابن خلدون، أو التعمق في الفلسفة الحديثة، فكان عليه أن يقبل بمستقبل مهني رمادي وغامض، أو أن يواصل سعيه المعرفي على هامش النظام التعليمي الرسمي. هذا التوجه أثر بشكل كبير على إنتاج الفكر النقدي المستقل.

هدأت الحياة الثقافية بشكل ملحوظ في عقود لاحقة من القرن العشرين. لم تعد الكتب تطير بجناحي الفكر الحر وتنتشر بحيوية كما كانت في عصر النهضة، وصارت تمشي بحذر، تخشى أن تُفهم بشكل خاطئ أو تُساء قراءتها من قبل التيارات المتشددة. المدارس صارت تهتم بالشهادات ونتائج الامتحانات أكثر من اهتمامها بتنمية الفكر النقدي والإبداع لدى الطلاب. الثقافة باتت موسمية، تظهر في معارض كتاب مؤقتة أو على الأرصفة بكتب لا تجد طريقها للنشر، واختفى المثقف المستقل الذي كان رمزاً للوعي والحرية؛ فإما أنه غادر البلاد بحثاً عن بيئة أكثر انفتاحاً، أو اختار الصمت تجنباً للمشاكل، أو تحدث بلغة رمزية لا يسمعها ويفهمها إلا القليلون، مما أفقده تأثيره على الجماهير.

ثم جاء عصر جديد، القرن الحادي والعشرون بثورة رقمية هائلة غيرت المشهد الثقافي والفكري جذرياً. أصبح الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي المصدر الرئيسي للمعلومات، مما أدى إلى تضخم هائل في المحتوى وتحديات تتعلق بالمصداقية والأخبار الزائفة. انتشرت الكتب الإلكترونية والصوتية، وظهور منصات النشر الذاتي، لكن الإقبال على القراءة المتعمقة لا يزال يواجه تحديات مع تفضيل المحتوى السريع. بدأ الذكاء الاصطناعي يلعب دوراً متزايداً في إنتاج المحتوى والتحليل، مما يطرح تساؤلات حول مستقبل الإبداع البشري. ولا تزال المنطقة تواجه تحديات اقتصادية وسياسية تؤثر على الثقافة، بالإضافة إلى استمرار الرقابة، بالرغم من صعوبة التحكم الكامل في تدفق المعلومات الرقمي.

ومع كل هذا التهميش، لم ينتهِ كل شيء. الفكر، كالنار تحت الرماد، لا يمكن أن ينطفئ تماماً. ما زال هناك طفل صغير يتأخر عن المدرسة، لأنه يقرأ كتاباً قديماً في حقيبته، يجد فيه عالماً آخر غير الذي يراه حوله. وما زال هناك من يكتب، ليحمي ما تبقى من روحه، وليوصل صوتاً قد لا يسمعه أحد الآن، لكنه سيجد طريقه يوماً ما. فـالأفكار، مثل الأرواح، لا تموت. قد تُسجن، قد تُطارد، قد تُهمّش، لكنها لا تفنى. إنها تنتظر قارئاً حقيقياً يكتشفها، تنتظر لحظة تاريخية مناسبة، تنتظر وقتاً يعود فيه الناس للإصغاء بقلوب مفتوحة.

وسيأتي هذا الوقت حتماً، حين تتعب الأجهزة الإلكترونية من الحسابات المعقدة، ويهدأ الزحام الرقمي الذي أرهق العقول، ويعود الإنسان إلى فطرته. حينها، سيعود الكتاب، كرمز لزمن مضى، ورفيق يروي قصتنا من جديد، قصة الإنسان والبحث عن المعنى. ويعود المثقف يذكرنا، بصوته الهادئ العميق، أن الأفكار لا تُؤكل لتسد جوع البطون، لكنها وحدها تُطعم الأمم روحاً وعقلاً، وتُضيء لها دروب المستقبل.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.