: آخر تحديث

واحشني زمانك !

3
2
2

نجيب يماني

من أزقة جدة القديمة، ومن بين حجارة المنقبي العتيقة والرواشين الخشبية المعبقة بهواء البحر وزفيره، خرجت إلى الدنيا زهرة نادرة، ثريا محمد عبدالقادر قابل يتيمة الأب، آمنت أن الحرمان يصنع في القلب قوة، وأن الفقد يفتح للروح نافذة من نافذة الشعر أطلّت على العالم، تحمل في وجدانها إصراراً بأن يعلو صوتها بلا خوف فكتبت اسمها صريحاً، ووقعت به ديوانها الأوزان الباكية صرخة أنثوية جريئة، تقول إن للمرأة في هذا الوطن صوتاً، وإن للشعر حين يكتبه قلب أنثى أفقاً آخر يضيء العتمة.

كانت نغمة مختلفة، لغة فصيحة مشبوبة بالعاطفة، بلهجة صافية، خفيفة على الروح، محمّلة بعطر البحر ونكهة البن الحجازي، لتصبح بحق شاعرة جدة الأولى، ووجهها الغنائي المضيء.

تمزج بين حزن دفين ورغبة في الانعتاق، أثارت جدلاً وجدالاً، جعلت منهما سُلّماً يعلو بها نحو آفاق جديدة.

وجد عمالقة الغناء طلال مداح بصوته الماسي، وفوزي محسون بعذوبة ألحانه، ومحمد عبده بوهجه الطربي في كلمات ثريا سلسبيل حبٍّ لا ينضب، فراحوا يغنّونها بصدق، وتحوّلت كلماتها إلى ألحانٍ تحفظها الذاكرة الجماعية في العالم العربي.

من قصائدها التي لا تنسى

بشويش عاتبني، حاول كده وجرب وانسى على كيفك

تمنيت من الله تبقى معى يا حبيبي

اديني عهد الهوى واثبت لي انك بتوفي واحشني زمانك جلستك حضنك حنانك

وصولاً إلى الأغنية الخالدة من بعد مزح ولعب..

كتبها قلبها العاشق، فصارت واحدة من أيقونات الغناء العربي، عذبة في كلماتها، صادقة في بوحها، شفافة كالمطر حين يهمي على صحراء عطشى.

أما أغنيتها كأني عمري ما حبيت فهي وشوشة عذبة في آذان كل العاشقين كأنك أول إحساسي إذا شفتك أنا حنيت وأداري بعشقتك راسي تزين ليلي ومواعيدي

يصير الكون كله سعيد وعني تغيب يغيب عيدي اذا شفتك انا حنيت كانك أول احساسي..

احبك قد ما حبوك جميع الناس من قبلي ومن بعدي اذا حبوك ماحد فيهم يحب زيي..

كلمات، محلية حجازية.

بروحها المميّزة رائحة الحارة، صوت البحر، ولهجة الناس، صوتها كان وطنياً وإنسانياً

لغة بسيطة بعيدة عن زخرف القول، كلماتها نسيج من خيوط الفجر أبيض، سلساً، يعانق القلب دون أن يجرحه.

جرأتها حب للحياة، وإيمانهاً أن الجمال أرقى من أن يُكبت أو يُمنع.

ثريا أيقونة أنثوية، كتبت بمدادٍ من شوق وأنوثة وجرأة، تقول إن الفن ليس ترفاً، بل هو حياة بديلة، حياة موازية، نلجأ إليها حين تفيض قسوة العالم.

علمتنا أن الحب هو أعظم قصيدة، وأن الغناء هو وسيلة الروح كي تتحرر وتطير.

هي فراشة من نور، لا تحترق بالنار، بل تصنع من ضوء الشموع شعراً، ومن دموعها أناشيد. ثريا التهمت رحيق الحياة، وحولته إلى قصائد، فبقيت أغانيها أريجاً متواصلاً، يعبق في فضاء الذكرى.

جمعت بين صرامة الوعي ورهافة الإحساس، بين قوة الصوت وأنوثة البوح، بين جدة الصغيرة وفضاء العالم العربي الكبير.

جعلتنا نؤمن أن الكلمات حين تخرج من قلب امرأة عاشقة، تستطيع أن تسحر أمة بأكملها، ثريا لم تكتب عن الحب فحسب؛ بل كانت الحب نفسه.

أغنيتها «بودي لو يكون الناس» قصيدة عشقٍ سماوي تتمنى فيها أن يصبح وجود الناس كلهم رداءً يستر غيرة الحبيب، وأن يتحول العالم كله إلى فضاء يجمعها بمن تحب.

كلمات تشبه نوارس البحر حين تحلّق على الأمواج، تصرخ بالحب ولا تخاف أن تنكسر،

بودي لو يكون الناس

في أي مكان أنا وأنت

بدل ما احتار وأنت تغار

يا أغلى الناس يا كل الناس

يا ريت الناس أنا وانت

أي صدق أعذب من هذا؟ وأي حب أصفى من حب لا يخجل أن يعلن نفسه للكون كله

شعرها معادلة نادرة بين بساطة المفردة وعمق الإحساس إنها صوت الحب.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد