: آخر تحديث

معضلة تريفين في زمن ترمب!

1
2
2

علي محمد الحازمي

تُعد معضلة تريفين من أهم المفاهيم التي تساعدنا على فهم التناقضات البنيوية في النظام النقدي العالمي القائم على هيمنة الدولار. فقد أوضح الاقتصادي روبرت تريفين أن أي عملة وطنية تتحوّل إلى عملة احتياطية دولية ستواجه حتماً مأزقاً مزدوجاً، يتمثّل هذا المأزق في إما أن تُصدِّر الدولة المصدّرة لهذه العملة كميات كبيرة منها إلى العالم عبر عجوزاتها التجارية والمالية، وهو ما يهدّد الثقة بقيمة عملتها، أو أنها تقيِّد الإصدار وتحافظ على توازن داخلي، وهو ما يؤدي إلى نقص في السيولة الدولية ويشل حركة التجارة والاستثمار العالميين.

هذا التناقض تجسّد عبر عقود من الزمن في حالة الولايات المتحدة، التي اضطلعت بدور محوري في إمداد العالم بالدولارات منذ اتفاقية بريتون وودز وحتى اليوم. على الرغم من الجدل الداخلي المتكرر حوله، يشكّل العجز التجاري الأمريكي القناة الرئيسية التي تضمن تدفق الدولار إلى الاقتصاد العالمي، وأي محاولة لإلغائه ستقود بالضرورة إلى تراجع السيولة الدولية بالدولار، وهو ما يهدّد الركيزة الأساسية لهيمنته كعملة احتياطية.

هنا تتقاطع معضلة تريفين مع سياسات الرئيس الأمريكي دونالد ترمب. يشن ترمب حرباً تجارية على معظم دول العالم، وفرضَ رسوماً جمركية مرتفعة على مئات المليارات من السلع المستوردة، بزعم أن ذلك سيقلّص العجز التجاري الضخم ويعيد الوظائف والصناعات إلى الداخل الأمريكي. من يتتبع الخطاب السياسي الأمريكي يجد أنه صوّر عجز الميزان التجاري على أنه دليل استغلال خارجي وضعف داخلي. لكن من زاوية نظر تريفين، هذا العجز ليس عيباً بقدر ما هو وظيفة تؤديها الولايات المتحدة في خدمة النظام المالي العالمي كون عملتها هي عملة التجارة العالمية الأولى.

أظهرت التجربة أن الرسوم الجمركية لم تؤدِّ إلى انكماش جوهري في العجز التجاري الأمريكي، بل في بعض السنوات اتسع العجز، نتيجة ارتفاع كلفة الواردات وتراجع الصادرات بفعل السياسات الانتقامية من الشركاء التجاريين. فالسوق العالمية بطبيعتها تحتاج الدولار، والعجز التجاري هو الأداة التي تتيح لهذه الدولارات التدفق إلى الخارج، لذلك أي محاولة لكبح هذا العجز بشكل مصطنع ستصطدم بحاجة بقية العالم إلى السيولة الدولارية، وبالتالي يظل العجز متجذراً مهما تعددت السياسات الحمائية.

ما قام به ترمب كان أقرب إلى صراع مع منطق المعضلة نفسها. فبينما سعى إلى تحقيق توازن تجاري داخلي، كان يواجه حتمية دولية تفرض على الولايات المتحدة دوراً مغايراً. وهذا يفسر لماذا لم تنجح سياساته في تغيير المعادلة، لأن التوازنات العالمية أقوى من القرارات الجمركية المؤقتة.

اليوم، وبينما يتجدّد النقاش حول مستقبل الدولار في ظل صعود العديد من العملات العالمية يأتي في مقدمتها اليوان الصيني واليورو وتنامي الدعوات إلى نظام نقدي متعدد الأقطاب، تبقى معضلة تريفين حاضرة كإطار يفسر هذه التناقضات. فالدولار ما زال يتدفق عبر عجوزات أمريكية متصاعدة، والسياسات الحمائية أثبتت محدوديتها أمام قوى العولمة والطلب الدولي على العملة الأمريكية.

إن العجز الذي يراه ترمب «عيباً» هو في الحقيقة الثمن الذي تدفعه واشنطن مقابل امتياز الاحتفاظ بعملتها كعملة الاحتياط الأولى في العالم. وهكذا، فإن العلاقة بين رسوم ترمب الجمركية ومعضلة تريفين تكشف أن الصراع بين الداخل والخارج ليس مسألة سياسية آنية، بل معضلة بنيوية متجذرة في طبيعة النظام النقدي العالمي.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد