: آخر تحديث

زياد الرحباني.. الفرادة في العزف على وتر الوجع الإنساني!

3
3
3

قيل الكثير عن زمننا هذا، زمن الرثاثة والانحدار، ومن بين تداعياته "المريرة" ربما، ذاك الإحساس بالعجز عن مجاراة واقعٍ مؤلم، بالغ الرثاثة، والتغني بـ"الزمن الجميل" واستدعائه كلما اشتدّ الوجع، واختنق الصراخ المكبوت، ليتحوّل إلى حالة يأسٍ وإحباطٍ من إمكانية الخلاص.

لم يقتصر الانحدار على فعل السياسة وتجلياته، بل امتدّ إلى سائر ميادين الحياة الثقافية والفنية، وحقول الاقتصاد والتربية والصحة، وسواها من مظاهر التصدع الاجتماعي والروحي. وكاد المشهد العام، في مساراته وإسقاطاته، يبدو كما لو أنه تدوير لانهيار القيم والمبادئ الإنسانية، وتخلٍّ عامٌّ عنها، حتى على مستوى الاستنكار، وأحيانًا بالمجاراة والقبول بها، بوصفها شكلاً ملائمًا لتحوّلات مجرى التطور الحضاري وانعكاسًا له.

وليس غريبًا، في ظل هذا المشهد، أن تتحوّل نتاجاته وانعكاساته إلى ثقافة مجتمعية ضاغطة، تدفع نحو مزيدٍ من الانحدار في الوعي العام، وتُضعف حصانة الرفض والتمرد والنهوض وفعل التغيير.

وقد بانَت مظاهر هذا الارتداد في الوعي العام والبيئة السائدة بكل عنفها وأدواتها، في السياسة وأنماط الحكم، وفي استقواء كل مفاعيل التخلف، وتغييب الدولة لصالح اللادولة، بكل ما تعنيه من تسلط حوامل التخلف في قاع المجتمع، واستحضار أحطّ عهود "التوحش والفوضى والعنف المنفلت"، وانبعاث العودة إلى الهويات الفرعية، وقيمها وأساليبها، والاستقواء بها وترسيخها.

غير أن هذا كله لم يترسّخ في الوعي العام دون انعكاسه في الفن، وفي أنواعه الأكثر جماهيرية وتأثيرًا: الموسيقى، الغناء، والأنماط المرافقة لهما. وقد لامسَ هذا البُعدَ الثقافيَّ الناقدُ إدوارد سعيد في مقالته الشهيرة "عصر تحيا كاريوكا"، حين أضاء جانبًا من أثر الفن الجماهيري في إنتاج الوعي أو تكريسه.

وشهدت مرحلة امتدت مع صعود النضال والحراك الوطني التحرري، منذ الإفلات من العهد العثماني وانبعاث حركات التحرر القومي والوطني، تألّقًا للأغنية والنشيد والقصائد المغنّاة، بدورٍ تحريضي، توعوي، وتعبوي، أغنت الحركات الوطنية وساهمت في إشاعة المفاهيم والقيم الإنسانية، ودفع أوساط أوسع للانحياز والمشاركة في الحراك الاجتماعي والسياسي. وكان لذلك تأثيرٌ في ما تحقّق من تحوّلات إيجابية في الوعي العام، ومن إنجازات سياسية سيادية واستنهاض في مختلف المجالات.

تلك الأدوار الإيجابية المؤثّرة للفن، وللأغنية والنغم السياسي تحديدًا، في مرحلة ما سُمّي بـ"التحرر الوطني" – التي غلبت عليها ظاهرة الانقلابات العسكرية – لم تخلُ، دون شك، من جوانب سلبية، أبرزها تكريس أنماطٍ فردية في أساليب الحكم، وعبادة الزعيم والحزب القائد..!

لكن ظاهرة الفرادة، في الجمع بين كل أدوات نغمٍ متكامل: كلمات، ألحان، أداء، وموقف، تمثّلت في مبدعٍ استثنائي، حمل تراث آل رحباني الأيقوني الإبداعي، وتفرّد به، وارتضى أن يُعرف باسم: "زياد الرحباني". لم يتكرّر في غيره، حين يكتمل التوصيف بما عبّر عنه وانتهجه، ولم يحد عنه، باعتباره حاملًا لهمّ الفقراء والمحرومين والملتاعين من جور الاستغلال والتمييز والعسف، والعازف – بعاطفة لا تنضب – على وتر الوجع الإنساني، كيفما انعكس وأينما تجلّى.

وبفقدانه، يُطوى خيطٌ منير من شمس الحرية، ويغيب قبسٌ من عملية إبداعية وسلوكٍ يتوحّد فيه الفن بالتوهّج الإنساني، وسط زمن الرثاثة والانحدار... زمنٌ قد يمضي، لكنه لن يُكتَب له أن ينتهي، دون أن يكون زياد جزءًا من فعله، أو من حلم تغييره.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.