: آخر تحديث

الإبادة في غزّة والصراع على المحرقة

5
5
5

مؤخّراً لاحظ إسرائيليّون ويهود مناهضون لحكومة نتانياهو أنّ الصور التي تأتينا من غزّة تشبه بعض الصور التي نقلت وجوهاً من المحرقة اليهوديّة. فالكتل السكّانيّة التي تُعاقَب من غير تمييز، فتُقتل بالسلاح كما بالتجويع، وتُدفع من منطقة إلى أخرى مثلما تُدفع الأشياء التي فقدت ذاتها الإنسانيّة ونُزعت عنها كلّ صلة بأرض أو برغبة أو بخيار، والأطفال الذين استحالوا هياكل عظميّة، والأمكنة التي مُحيت ورُدّت إلى ما قبل تشكّلها، والبيئة التي لُوّثت أو سُمّمت وصار صلاحها للحياة مشكوكاً فيه...، كلّ هذا وسواه يردّ إلى أشكال من الكوارث الرؤيويّة التي تحتلّ المحرقة صدارتها.

فوق ذلك، فصرخة «لن يحدث ثانية» التي كانت أهوال المحرقة سببها ودافعها، تعرّضها الإبادة في غزّة، التي يشارك في ارتكابها بعض أحفاد ضحايا المحرقة، فضلاً عن الإبادات الأخرى التي حصلت وتحصل في بلدان عدّة، لانتهاء الصلاحيّة وضعف الصدقيّة. وشيء كهذا يعني أنّ الكثير ممّا أنجزته إنسانيّتنا، أو تراءى لها ذلك، لا يزال مطروحاً على جدول أعمالها، وإن بزخم متراجع وهِمم فاترة. وكما مع المحرقة، في الأربعينات، يتثاءب العالم المؤثّر أو يشيح بأنظاره عمّا يجري، إذ أنّ ما يحصل يحصل في الـ»هناك» البعيد. ومثلما كان اليهود الأوروبيّون يُحرَقون بلا سبب يتعدّى كونهم يهوداً، فأهل غزّة يُقتلون ويُجوّعون لمجرّد قتلهم وتجويعهم بعدما استنفدت الحرب الإسرائيليّة، بوصفها دفاعاً عن النفس، أغراضها. وكثيرون الآن هم الإسرائيليّون، وفي عدادهم قادة عسكريّون، ممّن يقولون هذا الكلام أو يصفون المأساة المتمادية بـ»حرب نتنياهو».

وما يجري في غزّة ليس محرقة، لكنّ فيه عنصراً هولوكوستيّاً نافراً يكذب الذين لا يرونه. وبالتالي فمعركة الصورة الغزّاويّة، وصِلتها بالصور التي أنتجتها المحرقة، وبالمعاني التي تختبئ في الصور، وكذلك البُعد الإنسانيّ والكونيّ المقيم فيها...، معركةٌ تستحقّ أن تُخاض سياسيّاً، وينبغي أن تُخاض أخلاقيّاً.

وهذا لا يفترض سهولة كسبها بالضرورة، إلاّ أنّه لا يستبعد احتمال كسبها، خصوصاً إذا اقترنت بجهد فلسطينيّ دؤوب وطويل النفَس يُبذل في البيئات الشبابيّة الغربيّة ويراهن على ترجمة تحوّلاتها، ولو بعد حين، إلى وقائع سياسيّة وبرلمانيّة.

ففي مشروع كهذا، مُركّب ومعقّد، تحتلّ مسألة المحرقة موقعاً بارزاً فيه، ثمّة ما يتّصل بطرفي العلاقة المباشرين. فنتنياهو ينتمي إلى تقليد في الصهيونيّة كان من رموزه مناحيم بيغن والمؤرّخ بنزيون نتنياهو، والد بنيامين، يبالغ في استثمار الإبادة اليهوديّة الكبرى، وفي استخدامها فزّاعة للنقّاد ومادّة ابتزاز للسياسيّين وجداراً حديديّاً يفصل اليهود، أمس واليوم وغداً، عن سواهم. ففرادة المحرقة، وفق التقليد المذكور، إنّما يتيح جعلها احتكاراً يهوديّاً خالصاً لا يقبل التصدير إلى غير اليهود.

وبما يتعدّى نتنياهو والتوظيف السياسيّ، ثمّة موقف فكريّ عبّر عنه مؤرّخون إسرائيليّون رفضوا تمثيل الضحايا غير اليهود في متحف المحرقة التذكاريّ في واشنطن، لأنّ عملاً كهذا يقوم على حساب خصوصيّة المصائر اليهوديّة وتفرّدها. وثمّة من رفضوا تقديم جرائم النازيّة ضدّ اليهود بوصفها «جرائم كونيّة ضدّ الإنسانيّة»، لأنّ ذلك يعني تغليب «المجرّد» على «المحدّد» وفكرةَ «الكونيّ» على واقع «اليهوديّ». فالذين قضوا في المحارق قضوا، بعد كلّ حساب، لأنّهم يهود فحسب.

وغالباً ما كان يمدّ حججاً كهذه بالذرائع أنّ كثيرين من خصوم إسرائيل، العرب وغير العرب، رفضوا استيراد تلك التجربة واستدخالها، بل كانوا يرفضون الإقرار بحصولها أصلاً.

واليوم يغدو مهمّاً جدّاً، وحيويّاً جدّاً، منع نتنياهو وشركائه من المضيّ في الاستحواذ على المحرقة والتدليل، في المقابل، على صلة ما تجمع بينها وبين الإبادة الغزّيّة وباقي الإبادات.

وهي ليست بالمعركة البسيطة ولا المضمونة النتائج، إلاّ أنّها المعركة التي تستحقّ أن تخاض. فالعوائق كثيرة في عدادها مدى قبول اليهود أنفسهم بأنّ إسرائيل ليست الممثّل الحصريّ للمحرقة، وأنّ ثمّة شركاء في المأساة الإنسانيّة المُنجرّة عنها يقف الفلسطينيّون في طليعتهم.

ولكنْ أيضاً هناك تحدٍّ فلسطينيّ، وإلى حدّ ما عربيّ، تستطيع استجابته أن تحسّن شروط خوض المعركة تلك.

ومن هذا القبيل لا بدّ من تطوير الإدانة لعمليّة 7 أكتوبر المشؤومة ذات النيّة والقصد الإباديّين اللذين لا يرقى إليهما الشكّ، ومن ثمّ نقد ذاك اليوم وجلده، والتنصّل من الأفكار اللاساميّة والإباديّة التي حملتها، ولا تزال تحملها، قوى 7 أكتوبر وامتداداتها. فـ»اللعنة على اليهود»، ذاك الشعار المركزيّ من شعارات الحوثيّين، لم تخفّف ذرّةً واحدة من امتداح دفاعهم المزعوم عن غزّة.

وبالتأكيد يكتسب أهميّة فائقة إغلاق صفحة الحرب التي انتهت عمليّاً، إذ باتت «حماس» تخوض في غزّة حرب «حماس»، بالمعنى الذي يخوض فيه نتنياهو حرب نتنياهو. وكلّ مسارعة في طيّ تلك الصفحة مسارعةٌ في فتح صفحة جديدة يحكمها همّ مبارحة العنف، لا الغطس فيه ولا تمجيده، وهذا فضلاً عن تعطيل الآلة الإباديّة الإسرائيليّة التي تمضي، غير هيّابة، في قتل الغزّيّين وتجويعهم.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد