في الأسبوع الماضي، انتهى العام الدراسي في بريطانيا وفي مختلف بلدان العالم، وبدأت العطلة الصيفية. اختفت جموع التلاميذ والطلاب من محطات الحافلات والقطارات صباحاً، ولدى انتهاء الدوام المدرسي.
من مزايا العطلات المدرسية في بريطانيا انخفاض زحام حركة مرور السيارات على الطرقات بشكل ملحوظ. الضجيج يغادر أسوار المدارس، وينتقل إلى صالات المطارات؛ حيث تغادر آلاف العائلات مصحوبة بأطفالها بريطانيا، للراحة والاستجمام في بلدان البحر المتوسط وغيرها من بلدان العالم.
خلال الفترة الصيفية، ترتفع أسعار تذاكر السفر الجوي إلى الضعف وأكثر، وتفيض صالات المطارات بزحام بشري غير عادي، يتميز بضجيج صغار السنّ من الأطفال والصبيان والمراهقين. اللهو والاستمتاع بالنزهات والعوم في مياه البحر، وتناول المثلجات والمرطبات، مكافأة مستحقة يقدمها الآباء والأمهات عن طيب خاطر لأولادهم وبناتهم الذين قضوا أشهراً بين حيطان فصول الدراسة، مثقلين بالروتين المدرسي.
في قطاع غزة، لا عطلة من المدارس لانعدام وجودها بعد أن تحولت أنقاضاً، ولا عطلة من الموت قتلاً بالرصاص أو بالجوع. على شاشات القنوات التلفزيونية بمختلف اللغات، يظهر العالم بشكل قبيح. يسيطر البكاء والدموع والحزن على المشهد. تطالعنا يومياً وسائل الإعلام بمشاهد لأمهات فلسطينيات، يحملن في أحضانهن أطفالاً جوعى، أو مرضى، أو يندبن باكيات أزواجاً وشباباً وأطفالاً قضوا بالرصاص في طوابير الحصول على الطعام، أو قُتلوا في غارة جوّية إسرائيلية.
الموتُ يأتي في غزة بأشكال كثيرة متنوعة، من ضمنها المجاعة. من لم يمت بقنابل الطائرات، أو برصاص الجنود الإسرائيليين، يموت من جرّاء المجاعة. الفرقُ بين العالَمين -في غزة وخارجها- ليس في حاجة إلى تدخل من محللين ومراقبين بالشرح والتأويل والتفسير. كما أن الفرق بين الصورتين ليس به مكان لعمل الخيال. ما يراه المشاهد في غزة منقولاً على شاشات التلفزيونات، ويسمعه في نشرات الأخبار، يمثل صورة حيّة، شديدة الواقعية وحقيقية، ودليلاً آخر يضاف إلى قائمة طويلة من الجرائم التي ترتكب في حقّ الإنسان والإنسانية في القرن الحادي والعشرين.
اللافت في الأمر، أن تلك المأساة الإنسانية تحدث من دون أن تتوقف عجلة الحياة، أو حتى تختل قليلاً في إيقاعها اليومي. وكأن ما يحدث في تلك البقعة الجغرافية المسيّجة بالحديد والنار والمنكوبة لا يهمّ سوى ساكنيها.
مفارقات الحياة في القرن الحادي والعشرين صورة قد تكون مكررة لما شهدته الحقب السابقة، باختلافات في التفاصيل تؤخذ في الحسبان، كالفروق في الروايات بين مختلف الرواة لدى سرد حكاية. ولكن الرواة مستقبلاً -على اختلافهم- سيتفقون على أن المجاعة في غزة من صُنع الإنسان. وأن التجويع كان بقرار سياسي، هدفه كسر مقاومة الإنسان الفلسطيني أمام أكبر آلة عسكرية في المنطقة.
المجاعات التي حدثت قديماً أو في سنوات مضت، وقرأنا عنها، أو تلك التي عاصرناها، غالبيتها تحدث نتيجة كارثة طبيعية، أو نتيجة اندلاع حروب أهلية تحُول بين المدنيين والوصول إلى مصدر الطعام. ولكن ما يُرتكب في غزة من تجويع مختلف، وحقيقة مؤلمة، سوف تؤرق ندماً الضمير الإنساني لأعوام طويلة، لعزوفه عن التدخل ومنعها.
الجريمة المرتكبة في حق سكان غزة أسقطت آخر ورقة توت عن منظومة العالم الأخلاقية؛ حيث يقايَض الإنسان بحفنة طعام ملوث للتنازل عن كرامته والتخلي عن أرضه وشرفه، على مرأى ومسمع من عالم يعيش فيه ما يقارب 8 مليارات نسمة.
وسائلُ الإعلام الغربية أطلقت على عملية دخول الغذاء إلى غزة وصف «الإطعام بالقطرة». الحكومة الإسرائيلية تتعمد إدخال كميات قليلة جداً من الطعام، لتحقيق أهداف عجزت عن تحقيقها عسكرياً طيلة واحد وعشرين شهراً، رغم ترسانتها العسكرية الهائلة. وجبراً للخواطر ليس إلا، تصدر -من هنا وهناك- بيانات تنديد أُعدَّتْ بصياغات حذرة، وبلغات خجولة، بأمل ألا تثير انتباه وغضب حكومة إسرائيل، كي لا تلحقها تهمة معاداة السامية.
وتبقى مهمة الإشارة إلى أن ما نراه يحدث من مظاهرات واحتجاجات شعبية في كثير من عواصم العالم، وخصوصاً في دول الغرب، وما تنقله منصات التواصل الاجتماعي من مشاهد، يوضح بما لا يدَع مجالاً للشك، عُمق الهوّة الفاصلة بين حكومات الغرب وشعوبه.