: آخر تحديث

عن الحنين الكسول إلى «الزمن الجميل»

5
4
3

ثمة مفاهيم تتداول شعبياً من دون تحليلٍ أو تبصّر. ومن ذلك عبارة «الزمن الجميل».

لا يوجد شيء اسمه زمنٌ جميل. الزمن يمضي من دون هوادةٍ من دون إذنك ولن يعود. الزمن هو اللحظة التي بين يديك، والماضي يبقى مجرّد وهمٍ يحاول البعض استرداده. دائماً تتداول على نطاقٍ واسع فيديوهات عن ما يسمى «الزمن الجميل»... صور قديمة لبيوتٍ، وسيارات، وهواتف أرضيةٍ رثّة، وألعاب، وأدوات طهيٍ، وأدويةِ تطبيب، كلها تعبّر عن زمنٍ مضى كان الناس فيه هلكى من نقص الترف العلمي وجوعى لرفاهية التطوّر التقني، وهلكى من أمراضٍ تعالج الآن بإبرةٍ في ثانيةٍ واحدة، كالجدري والحصبة، والحمى وغيرها.

لو سألتَ أحداً وخيّرته أن يعيش في ذلك الزمن الذي يسافر فيه الناس بمشقّةٍ، زمن ليس فيه هاتف يتواصلون عبره مع الآخرين... يتطببون ببدائيةٍ مميتة، يتعالجون بالكيّ، ويلعبون بالحجارةِ والتراب، ويستمعون إلى الراديو بعناء، ويفكّون الحرف ويتعلمون القراءة بمشقةٍ، زمن كان المولود فيه يقفز نحو الحياة وينجو من الموت بأعجوبةٍ، لو خيّرت أحداً بين ذلك الزمن القاحل وبين زمننا هذا حيث تفوّق وسائل السفر، والتقدم العلمي والصناعي والتكنولوجي، والرفاهية الدنيوية، وتفوّق وسائل التعليم والتعلم، زمن سهولة كل شيء تقريباً، هذا عدا ما نشهده من فتوحات الذكاء الاصطناعي، والتفوّق في العلاج الطبي، فبالتأكيد -إن كان عاقلاً- سيختار زمننا الحاضر.

عن موضوع الذكاء الاصطناعي والطبابة أذكّر بما كتبه الأستاذ عميد خالد عبد الحميد «الذكاء الاصطناعي... وجهاً لوجه مع الطبيب»، فيه يقول: «تخيّل جرّاحاً يخطّط لعملية جراحية معقدة، ويستعين بنظام ذكاء اصطناعي حلّل عشرة آلاف حالة مماثلة من ثلاثين دولة ليقترح عليه أفضل المسارات الجراحية وأكثرها أماناً، أو طبيباً يتلقى تنبيهاً فورياً عندما يرصد النظام الذكي خللاً محتملاً في جرعة دواء، بناءً على تحليل نصف مليون تقرير عالمي عن التفاعلات الدوائية! هذا لم يعد سيناريو مستقبلياً؛ بل هو الدور الجديد الذي بات يؤديه الذكاء الاصطناعي داخل العيادات الحديثة».

سبق وكتب الأستاذ ممدوح المهيني مقالةً مهمةً بعنوان: «خدعة اسمها الماضي الجميل»، مما ورد بها: «هذه الفكرة خارج سياق الأحاديث اليومية، ولكنها مهمة لأنها تحدد رؤية الأشخاص، خصوصاً الأجيال الجديدة لأنفسهم وللعالم من حولهم. وتساعد على فهم كيف تطورت البشرية خلال قرون طويلة وفهم حركة التاريخ التي لا تعود للماضي. وهذه الفكرة مهمة أيضاً للانسجام مع الواقع والحداثة والمدنية التي غيّرت عالمنا للأفضل والإيمان بقيمها وعدم تنجيسها بل الاندماج الكامل بها والمشاركة في ازدهارها، وليس الانتقاص بحكم أنها صنيعة الغرب، وبالتالي الإحساس بالذنب والاغتراب وتمني عودة الماضي الجميل حتى لو كان مجرد كذبة رومانسية غير قابلة للتحقق».

نعم الذكريات جزء من تجربة الإنسان، وهذا أمرٌ طبيعي، لكن سكنى التاريخ وماضيه يعبّر عن كسلٍ في فهم الحاضر والتواؤم معه والانخراط فيه.

الحاضر يحمل فتوحاتٍ علميّة مذهلة لم تكن متاحةً حتى قبل عشر سنواتٍ من الآن. نصحو يومياً على فكرةٍ جديدة، وابتكارٍ تكنولوجي خارق، وعلاج طبي ناجع، وتسهيلِ تقنيّ مبهر.

إن اجترار الماضي باعتباره أنقى من حاضرنا هذا هو ممارسة نوستالجية كسولة غير مفيدة بل تضرّ بعلاقة الأجيال الصاعدة بحاضرهم وتؤثر على إيمانهم بمستقبلهم، من الطبيعي أن تستمع إلى أغنيةٍ قديمة، أو تستعيد قصائد وقصصاً وحكايات، ولكن الخطير أن تسكن الزمن الذي قيلت وأُنتجتْ فيه.

الخلاصة؛ إن الزمن الجميل قولٌ فيه بمكانٍ ما إضراب عن الوجود، وفيه كسلٌ عن فهم الحاضر، وعجز عن تصوّر المستقبل، وتوريث هذه المقولة للأجيال يجعلها أكثر عرضةً لكراهية الواقع والاحتجاج عليه، كل زمنٍ في طوامّه وكوارثه، وعليه فإن الحاضر بكل تقدّمه وفتوحاته وبما فيه من هنَّات هو الأجمل، وكل لحظةٍ نتفوّق فيها دنيوياً وعلمياً نكون في حالةٍ جماليّة خارقة هي أجمل من كلّ ماض.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد