ما إن هبطت الطائرة حتى سألت زوجتي عن تفعيل باقة التجوال الدولي، لكنها صدمتني أنها لن تفعل ذلك! وأن رحلتها الصيفية سوف تكون بعيدة عن الجوال وإشعاراته قدر الإمكان!
مباشرة قفزت إلى ذهني مشاهد ما استحال اليوم أسلوب سفرنا.. إذ بات مشهد الساحر للغروب فرصة لا تفوّت لالتقاط صورة رائعة، وليس للتأمل والتفكير! وصارت نسمات البحر خلفية سينمائية لفيديو على "سناب" لا لحظة صفاء وسكينة! لم نعد نحزم حقائبنا لنرتحل ونستجم، بل لنحمل معنا شبكة علاقتنا في هواتف لا تفارقنا، وكلما ظننا أننا هربنا من التزاماتنا ومسؤوليتنا، إذا بنا نطاردها في كل إشعار وتعليق.
انقلبت الإجازة إلى مهمة إعلامية بدل أن تكون رحلة راحة واستجمام، فالفندق لا يُختار لمرافقه وتجهيزاته، بل لزواياه المناسبة للتصوير! والطبق لا يُؤكل قبل أن يُصوَّر! والحديث لا يُستكمل حتى يُسجّل.. بِتنا نحسب لحظاتنا بنقرات "الإعجابات"، ونقيس جودة رحلاتنا بـ"تفاعل المتابعين"، وكأن قيمة السفر لم تعد فيما نراه ونُجربه؛ بل في كيفية ظهوره أمام الآخرين!
المأساة الأخرى هنا؛ أن السفر تحوّر من فرصة للانفصال عن واقعنا والسكون إلى النفس، إلى لهثٍ وراء شعور الخوف أن نعرف ما يحدث! نخشى أن تفوتنا القِصص، أن يسبقنا أحد بصورة، أن تغيب عنا مناسبة.. لاحظ أنك تتحقق من إشعارات هاتفك أكثر مما تُركز في خريطة الطريق! نُحدِّث "الستوريات" قبل أن نُحدّث جدول رحلتنا، حتى أطفالنا لم يسلموا، يجلسون معنا بأجسادهم، وعيونهم معلّقة على هواتف جولاتهم مع أصحابهم، تسرق منهم المتعة والبهجة، كما تسرق منا جميعاً لحظات الأُسرة.
لا نتحدث سوياً، لأننا مشغولون بإرسال صورنا وفيديوهاتنا إلى البعيد، بينما القريب يجلس صامت ومحدقاً -كما نحن- في هاتفه، نجتاز المعالم السياحية بسرعة اللقطة، لا ببطء التأمل، دون أن نستشعر تميّز المكان، لأننا لسنا هنا؛ نحن في عقل المتابع، في وهم الانطباع، في دوامة القبول الرقمي.
والأدهى من ذلك، أن وسائل التواصل باتت تقتات على المقارنات السامة، ترى غيرك في نفس المدينة، لكنه في "حديقة أروع"، وفي "مطعم أفخم"، فتدخل في مقارنات تعكر صفو إجازتك دون أن تعلم، لأن هذه الإشعارات تُغذي روح الكآبة والبؤس بدل السعادة والبهجة، وتمنحنا شعور النقص حتى ونحن قد قطعنا مئات الكيلومترات نحو أفضل الأماكن!
ألا يجب علينا أن نسأل أنفسنا: هل نحن نسافر حقاً؟ أم فقط نغيّر مواقع تصويرنا! متى كانت آخر مرة جلسنا معاً دون أن نمسك الجوال؟ متى ضحكنا دون التفكير في مظهر صورة الضحكة؟
عزيزي.. الإجازة الناجحة لا تُقاس بعدد الصور، بل بالذكريات التي سكنت قلوبنا.. السعادة لا تُوثّق فقط، بل تُعاش أولاً.. ربما حان الوقت لنبتعد عن الجوال ونترك العالم الرقمي خلفنا، لنستمتع بالإجازة كما كانت تُعاش قبل سطوة "التواصل الاجتماعي".. حاول، وحتماً سوف تدرك الإجازة الحقيقية.