: آخر تحديث

عبدالناصر ومشروعه.. الصراع على المستقبل

6
5
5

عبدالله السناوي

إنه صراع على المستقبل لا صدام في الماضي. هذه حقيقة مساجلات كل عام، التي تعاود إنتاج نفسها في ذكرى ثورة 23 يوليو. التصويب غير الطمس والنقد غير التشهير. القضية ليست جمال عبدالناصر، فقد رحل قبل 55 عاماً، ولا «ثورة يوليو» نفسها فقد انقضت أيامها بعد أحداث 15 مايو/أيار 1971. موضوع الحملات اغتيال المشروع الوطني، الذي جسدته «يوليو». قوة أي مشروع في قدرته على بناء أفكار وتصورات وسياسات جديدة وفق قيمه الرئيسية بالنقد والتجديد والإضافة، وإلا فإنه يدخل في موت سريري لا قومة منه. أهم قيم مشروع «يوليو»: استقلال القرار الوطني وانتماء مصر العربي والانفتاح على العالم الثالث وقضاياه والعدالة الاجتماعية ومناهضة التبعية في السياسة والاقتصاد. تختلف المقاربات والسياسات باختلاف العصور. اكتسبت «يوليو» قوتها من تفاعلها مع حقائق عالمها، تحدت وحاربت واجتهدت، أصابت وأخطأت، انتصرت وهزمت، هذا كله يحتاج إلى مراجعة لمواطن القوة والضعف في أهم تجاربنا الحديثة. استوعب عبدالناصر في مشروعه أفضل ما كان مطروحاً من خيارات عصره، دمج التحرر الوطني بالالتزام القومي العربي وبفكرة التغيير الاجتماعي والانحياز للطبقات الفقيرة. كانت العدالة الاجتماعية صلب قاعدة شرعيته، حيث تعلقت باحتياجات البشر في الصحة والتعليم والخدمات الأساسية، وقبل ذلك الحق في العمل وفي عائد الناتج القومي، أن يكون إنساناً كريماً في وطنه وآمناً على مستقبله. وكانت توجهاته العروبية أفق حركته في محيطه. أي توجّهات تكتسب قيمتها من مستويات التزامها. هناك حاجة حقيقية على مستوى الفكر إلى دمج قيم التعددية والديمقراطية السياسية وحقوق الإنسان، لا تحتمل أي التواء في صلب المشروع الوحدوي العربي. قيم المشروع وحدها هي التي تربط بين الإرث والمستقبل، حتى يكون ممكناً أن يقف من جديد على أرض صلبة. لا تمثل «يوليو» نظرية يقاس على نصوصها بقدر ما تلخص مشروعاً يقاس على قيمه. إنكار العدالة الاجتماعية انتقاص من فكرة الحرية نفسها. الكلام المرسل عن العدالة الاجتماعية أثناء ثورة «يناير» سهل على الأيدي الخفيفة أن تلتقطه، وتذهب به إلى حيث تريد. عندما افتقدنا تراكم التاريخ خسرت فكرة الثورة اتصالها بحقائق مجتمعها وتاريخها، وأفقدت نفسها مرجعيات ترشد دعوتها إلى العدالة الاجتماعية من واقع تجربة مصرية معاصرة وملهمة. من طبائع الأمور أن تختلف التقديرات السياسية بشأن الأحداث الكبرى وأدوار الثورات وإرثها في حياة الشعوب، غير أنه لا يصح أن تمضي بعض التقديرات إلى حد إهدار الذاكرة الوطنية، وإطلاق أحكام تفتقر إلى أدنى احترام لوقائع التاريخ الثابتة، مستبدة بها آثار تاريخ أو أفكار. ما حدث بالضبط أن الانقلاب على «يوليو» وشرعيتها وخياراتها الاقتصادية والاجتماعية والاستراتيجية لم يلحقه انقلاب على طبيعة النظام السياسي، بصورة تسمح بانتقال واسع لدولة مؤسسات حقيقية، يحكمها القانون والتوازن بين السلطات. كأي نظام ثوري فهو فعل استثنائي انتقالي، قاد أوسع عملية تغيير في البنية الاجتماعية، وأخرج طبقات رئيسية إلى الحياة وتطلعاتها في التعليم والصحة والرعاية الاجتماعية وحقوق العمل وتكافؤ الفرص، وخاض في الوقت نفسه معارك مفتوحة في إقليمه وعالمه، ودخل حروباً طاحنة في الصراع على المنطقة. لا يصح أن نحاسب الثورات بغير قوانين حركتها، أو بأهداف غير التي تبنّتها، أو خارج السياق التي عملت فيها والعصر الذي احتضن تفاعلاتها. بعض ما يتردد الآن من تشهير ب«يوليو» ينطبق عليه تماماً ما كتبه المفكر والناقد الأدبي الراحل الدكتور لويس عوض في كتابه «أقنعة الناصرية السبعة» من موقع النقد والاختلاف لا الدفاع والاتفاق. حين بدأ السجال يحتد داخل مصر والحملات تأخذ مداها بين عامي (1974- 1975)، كان يعمل أستاذاً زائراً بجامعة كاليفورنيا (لوس أنجلوس). «كنت في أوقات متباعدة التقي فصائل من المصريين تقيم حفلات الحقد المستمر على عبدالناصر والناصرية وتردد كل سخافة تقرأها في الصحف الأمريكية، فإذا رأت أن الجرائد الأمريكية تهلل لأن فايز حلاوة كتب مسرحية اسمها يحيا الوفد تسبّ الروس مجّدت فايز حلاوة من دون أن تعرف شيئاً عن مسرحياته». «وكنت أهتم بأن أسأل هؤلاء النازحين هذه الأسئلة المحددة: هل صادر عبدالناصر لك أو لأسرتك أملاكاً؟ فيقول: لا. هل سجنك عبدالناصر أو سجن فرداً في أسرتك يوماً واحداً؟! فيقول من يحاسب الناس وهو في أمريكا: لا. فيما إذن هذه المرارة ضد عبدالناصر؟ إنه خرّب البلد بالقطاع العام والتبعية للسوفييت. كل ما فعله عبدالناصر دميم وينبغي نقده. حتى السد العالي ينبغي هدمه». «كانت وجوههم مصرية وقلوبهم غير مصرية». أهمية هذه الشهادة في صاحبها، وأنه أدلى بها وهو يقف على الجانب الآخر من التجربة الناصرية وفي معرض نقده لها. ربما أراد أن يضع نفسه في حيز مختلف حتى لا تختلط وجوه ومواقف كأنها واحدة. «للناصرية اليوم وبعد وفاة صاحبها، نقاد بلا عدد ولكن لا تجوز مناقشة بعضهم لأنهم مجردون من الشرف الوطني، أو من الشرف الشخصي»- كما كتب حرفياً. القضية ليست الاتفاق على قراءة واحدة للتاريخ، هذا مستحيل تماماً. القضية أن تكون هناك موضوعية في القراءة حتى يمكن أن يتحدد مجرى رئيسي للنقاش العام يساعد مصر على استيعاب أهم تجاربها السياسية وتجديد مشروعها، الذي هو المشروع الوطني والقومي المتجدد وفق احتياجات العصور الجديدة.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد